الأحد، 17 أغسطس 2014

مع قصيدةٍ لأبي نواس



إنَّ المطلع على قصائد الشاعر العباسي أبي نواس (ت:195ه) يجد فيها العديد من الملامح الشعرية التي عملت على تجديد في بنية وتركيب القصيدة العربية، كابتدائه بالوقوف على الأطلال، ونقده للواقفين على تلك الأطلال، ووصفه للخمر وملذاتها حتى أُلِّفَتْ القصص الطويلة عنه في ذلك، والكثرة المفرطة في غزله الغلماني. [1]
ويعد أبو نواس من الشعراء المحدثين في الشعر العباسي، الذين عملوا على مواجهة القصيدة العربية التقليدية، فرفض الوقوف على الأطلال، وتهكَّمَ على الواقفين بأطلال بائدة في أكثر من موضع في أشعاره وهو الذي عدّه سعيد السريحي "مظهرا من مظاهر البحث عن لغة جديدة يحيا فيها الشعر ويزدهر"[2]، ومن هذه النصوص التي نقف عليها في قراءتنا لأشعار أبي نواس، قصيدة "خادمة القصر"[3] التي كعادته لم يقف فيها على أطلالٍ أو يتذكر محبوبته التي فارقها منذ أعوام.
يأتي مطلع القصيدة بذكره إحدى النساء، مستعرضا أوصافها قائلا:
وناهدةِ الثديينِ من خدمِ القصرِ:: سبتْني بحسنِ الجيدِ والوجهِ والنحرِ
وفي ذكر أوصاف الجارية تتنازع الشاعرَ عاطفتانِ مختلفتان كل الاختلاف، يتضح كل ذلك بذكره أوصاف الفتاة ثم إشارته إلى ميوله الغلمانية من أنها تشبه الغلمان في زيها، وأن حب النساء ليس من شأنه، فيقول:
(غُلامِيَّةٌ) في زِيِّها بِرمَكِيَّةٌ:: مُزَوَّقَةُ الأَصداغِ مَطمومَةُ الشَعرِ
كَلِفتُ بِما أَبصَرتُ مِن حُسنِ وَجهِها:: زَماناً (وَما حُبُّ الكَواعِبِ مِن أَمري)
هذا التنازع في الهوى جعل القصيدة تمضي في سياق سردي قصصي يتخلله الحوار. فتأخذ القصيدة منحنى ينتقل من خلاله من النظم القائم على الإيقاع الشعري إلى سرد تثقله الحكاية بقيودها المتأنية. فتاتي القصيدة محملة بأسلوب حواري بين طرفين لكلٍ منهما نظرته للآخر:
فَما زِلتُ بِالأَشعارِ في كُلِّ مَشهَدٍ:: أُلَيِّنُها وَالشِعرُ مِن عُقَدِ السِحرِ
إِلى أَن أَجابَت لِلوِصالِ وَأَقبَلَت:: عَلى غَيرِ ميعادٍ إِلَيَّ مَعَ العَصرِ
فَقُلتُ لَها أَهلاً وَدارَت كُؤوسُنا:: بِمَشمولَةٍ كَالوَرسِ أَو شُعَلِ الجَمرِ                                       
فَقالَت عَساها الخَمرُ إِنّي بَريئَةٌ:: إِلى اللَهِ مِن وَصلِ الرِجالِ مَعَ الخَمرِ
فَقُلتُ اشرَبي إِن كانَ هَذا مُحَرَّماً:: فَفي عُنُقي يا ريمُ وِزرُكِ مَع وِزري
فَطالَبتُها شَيئاً فَقالَت بِعَبرَةٍ:: أَموتُ إِذَن مِنهُ وَدَمعَتُها تَجري
فَما زِلتُ في رِفقٍ وَنَفسي تَقولُ لي:: جُوَيرِيَّةٌ بِكرٌ وَذا جَزَعُ البِكرِ
حتى يفاجئ الشاعر في النهاية بانتصار إحدى العاطفيتين على الأخرى، فها هو يعود إلى ذكر ميوله الغلمانية وإظهار فشل علاقته مع الأنثى التي لم تكن يوما رغبة يصبو إلى التطلع إليها:
فَلَمّا تَواصَلنا تَوَسَّطتُ لُجَّةً:: غَرِقتُ بِها يا قَومُ مِن لُجَجِ البَحرِ
فَصُحتُ أَغِثني يا غُلامُ فَجاءَني:: وَقَد زَلِقَت رِجلي وَلُجِّجتُ في الغَمرِ
فَلَولا صِياحي بِالغُلامِ وَأَنَّهُ:: تَدارَكَني بِالحَبلِ صِرتُ إِلى القَعرِ
فَآلَيتُ لا أَركَبَ البَحرَ غازِياً:: حَياتي وَلا سافَرتُ إِلّا عَلى الظَهرِ
فنجده يستغيث بالغلام لينقذه مما حل به، يذكرُ ذلك في لغة مليئة بالرمز (لجة، غرقت بها، لججت في الغمر، الحبل، البحر). هنا تبدو عاطفة الشاعر تتكشف وميوله تظهر في نصه الشعري وهو الذي أحال شاعرا كأبي نواس لمحاكمة دينية أخلاقية، محاكمة طالت نصوصه الشعرية رُمِيَ على إثرها بالفحش والسوء، فليس هينا أن يفصح شاعر بميوله الغلمانية في مجتمع كالمجتمع العباسي وهو الذي يعيش صراعا فكريا وأخلاقيا ودينيا سجلته كتب التاريخ.
وإننا إذ نقرأ ما كتبه أبو نواس هنا يحق لنا التساؤل هل حقا أن قصائد أبي نواس الخمرية والغلمانية هي إفراز لذلك المجتمع فقط، وأنه لم يكن إلا ناطقا بها؟ أم أنه شعور داخلي لمشاعر نفسية لم تستطع تجربته الشعرية أن تكبتها؟؟ ثم علينا أن نتفكر في مقولة أبي نواس طويلا: (والله ما فتحتُ سراويلي بحرامٍ قط).
 

[1] لقد انتُقد أبو نواس كثيرا بسبب ما داخل شعره وصف الخمر والغزل بالغلمان، فرماه الناس بالفسوق والفاحشة، يقول ابن كثير في البداية والنهاية 14/74: (وله في الخمريات والقاذورات والتشبب بالمردان والنسوان أشياء بشعة شنيعة، فمن الناس من يفسقه ويرميه بالفاحشة، ومنهم من يرميه بالزندقة، ومنهم من يقول: إنما كان يخرِّبُ على نفسه. والأول أظهر؛ لما في أشعاره...). وقال أبو عمرو الشيباني: (لولا أن أبا نواس أفسد شعره بهذه الأقذار لاحتججنا به في كتبنا. يعني شعره في الخمريات والأحداث). البداية والنهاية 14/66

[2] انظر سعيد السريحي، حركة اللغة الشعرية، جدة: النادي الأدبي الثقافي، الطبعة الأولى، 1999م، ص61. وقد رد السريحي بعض الآراء التي ذهبت إلى أن أساس هذه الظاهرة مردُّهُ تعصب أبي نواس ضد العرب أو الطعن في ثقافتهم، فقال: (ذلك أن المسألة تتجاوز هذا لتصبح محاولة لإحلال رموز شعرية جديدة محل رموز بدا عليها الاستهلاك...)ص64

[3]انظر ديوان أبي نواس (الغزليات)، تقديم وشرح الدكتور علي نجيب عطوي، لبنان: دار ومكتبة الهلال، 2002م، ص130 وما بعدها

 

 

هناك تعليق واحد: