الأربعاء، 14 ديسمبر 2011

من أكل "القاصية".. نحن أم الذئب؟!



في الصِّغرِ قرأنا حكاية الرجل الحكيم الذي ما إن أدركتْهُ الوفاةُ جمع أبناءَهُ الثلاثةَ، وأعطى كلَّ واحدٍ منهم عصا وطلب منهم أن يكسروها، ففعلوا. ثم أعطاهم حزمة من العصي وطلب منهم أن يكسروها فلم يقدروا على ذلك، والنتيجة التي تحيل إليها القصة الوحدة وعدم التفرق.

الرؤية  تقودنا إلى "القاصية"، ونحن نقرأ "إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية"، والقاصية هذه هي التي انفردت عن القطيع، ودائما ما يقودنا فهمنا إلى طرح الأسئلة:
-لماذا انعزلت القاصية عن بقية القطيع؟
-ما الأسباب؟
- هل ستعود أم لا؟

الحالة الشعورية النفسية تقول: "إن القاصية تقتضي أن تنفرد"، فالتجارب تقودنا إلى ذلك، لا سيما ونحن نعلم أن الحالة المزاجية التي تمر بها النفس تجعله موزعا بين حالات عدة. اليوم حالة فرح وسعادة، وغدا حالة حزن، وبعده حالة يأس وفتور. فالانزواء والابتعاد سنة كونية طالما أن النفس البشرية غير كاملة ويعتريها النقص....

تم طرح كل التساؤلات حول ذلك، ولكن تناسينا أن نفهم تلك الحالة، نفسيتها، موقفها، دواخلها، مشاكلها. كثرتْ فلسفاتنا حول المواقف، وتناسينا أن الحوار لغة تعيد الماء إلى نبعه صافيا، تعلمنا الكرْهَ فأطلقناه طائرا يحلق عاليا، وجهلنا أن الحب سحابة ماطرة توزع خيرها وتنشر الفرح والسرور..

سياسيا... ما قامت به القوات الخليجية المشتركة في البحرين هو ضمان لوحدتها جميعا، ونبذٌ للتفرق، وقراءة للمشهد التفككي الذي لن يخلف إلا التلاشي والإمّحاء، حيث أدرك الكل في الخليج أنه لو أُكِلَت الواحدة، ستؤكل الأخريات وذلك في باب أُكِلْتُ يوم أُكِلَ الثورُ الأبيضُ...

 من رأى المشهد بعينه وبقلبه وبوجدانه حتما، وأعاد قراءة التاريخ، سيتساءل حتما من أكل تلك "القاصية" نحن.. أم الذئب الذي عادة ما نلصق تهمنا عليه؟

الأربعاء، 23 نوفمبر 2011

كأنني أنا



8 في الخَريفِ تتساقطُ أوراقُ الشجرِ، أمَّا أوراقُ الحُبِّ فتظلُّ متعلقةً بغصونِ القلبِ.

9 تعبتُ من الشبهِ بيني وبينهُ، واحدةٌ تعرفُني، والأخرى تبحثُ عنْ رقمي، وأخي أبصرني في مكانٍ مشبوهٍ، وزوجتي تشكُ في تصرفاتي، أنا واحدٌ فكيف أتعدَّدُ.

12 الوسادةُ التي رميتُها منذُ شهرٍ كانتْ تملأُ رأسي بالأحلامِ المُخيفةِ، أمَّا الوسادةُ الجديدةُ قامتْ بطردِ جميعِ الأحلامِ. فأينَ سألتقي بحبيبتي؟

15 سأعترفُ بأمرٍ خطيرٍ: أنا لا أحبُّ السلالمَ.. كلما أنزلُ عن سلمٍ أتدحرجُ أرضاً، وكلما أصعدُ سلماً أتدحرجُ سماءً!!

22 القطةُ السوداءُ في بيتي لم تعدْ تُخيفني، صوتُها يملأُ المكانَ بحثاً عن أبنائها الصغارِ، كم هي جميلة عيناها، ولونها الأسود الملكي.

29 جهازُ الحاسبِ الآلي أصبح ثقيلاً، كأنَّ رأسهُ مملوءٌ بالهمومِ، مريرةٌ هذه العدوى، تلطِّخُ أيامنا بالكآبةِ.

40 "أحبكِ".. لم يسمعْها مني أحدٌ غيركِ. "أحبكِ" لم يسمعْها مني أحدٌ غيركِ. قلتها مرتين لزوجتي وصديقتي.... هل أنا كذّاااااااااب؟؟؟!


55 أشتهي أن أكتبَ قصيدةَ غزلٍ. لكن لا أجدُ امرأة تستحقُها.

70 أنا أولُ الفقراءِ على بابِ الموتِ.

77 من ابتسامتي تعرفُ أمي أني حزينٌ.

99 من أنا؟؟ سؤالٌ لم يجبني عليه إلا قلمي وصفحتي البيضاء الفارغة.


100 أمضي وأنظرُ للسماءِ، لم أدرِ أني قد وقعتُ في زجاجةِ عطرٍ.

الاثنين، 17 أكتوبر 2011

الإرادة تفلق الحجر



في انتخابات مجلس الشورى بولاية لوى تحققت الإرادة التي طمح إليها أبناء الولاية، وسقطت بقية الاعتبارات المتمثلة في القبلية والمادة وكل الشعارات الوهمية التي كنا نسمع عنها سابقا. تحققت الإرادة في أعلى صورها عندما تنافس مترشحان وبقوة على كرسي المجلس، مترشحان يدخلان هذا الغمار للمرة الأولى ويحققان الأصوات العظمى، وهذا إن دل فإنه يدل على أمور عدة:

- أبناء الولاية نما لديهم الوعي بمترشحيهم الذين يختارونهم فاختاروا الأمثل والأنسب والأفضل.
- لم تعد تسيطر على عقليات الكثيرين من الناخبين الاعتبارات القديمة في التصويت فسقطت السقوط الكبير.
- كان الشباب هذه المرة على موعد كبير من التحدي ، فانتصروا لذاتهم وأعانوا صرختهم.

لقد حقق الدكتور طالب المعمري، مع أبي المنذر الحلم المتمثل في الشخصية الجيدة التي تمثل الولاية في المجلس، فكانا أن حصلا على الأصوات الكبرى في الانتخابات في أول ترشح لهم.

فمبارك للدكتور طالب، ومبارك لأبي المنذر على المنافسة الشريفة والتي تنم عن وعي أبناء الولاية في مترشحهم وثقتهم فيه.

لقد حقق الدكتور طالب حلم أغلب شباب الولاية في اختيارهم له، متطلعين من خلاله لغد أفضل للولاية. إن الناخبين الذين منحوا أصواتهم للدكتور كانوا على ثقة طيلة الشهور السابقة للانتخابات أنه الشخص المثالي القادر على سماع شكواهم، والوصول بها بعيدا. لم يطمح الدكتور من خلال ترشحه للمنصب إلى مكانة أو شرف فهو غني عن ذلك، إنما أراد الوقوف مع أبناء ولايته، والاستماع لهم، والنظر في مستقبلهم.

لقد لمس الدكتور طيلة الفترة السابقة مقدار العلاقة التي تربطه بناخبيه، أحبوه منذ اول يوم أعلن فيه ترشحه للمجلس، كان واضحا منذ البداية، ووعوده كانت نابعة من حاجات ناخبيه، لم يلمع برنامجه الانتخابي بوعود زائفة، لقد كان بسيطا مع الجميع وأظنه سيظل كذلك ، فهذا عهدنا به طيلة سنوات معرفتنا به.

مبارك لك يا أبا أحمد.... ووفقك الله لكل خير...
ودمت رمزا لأبناء الولاية.

الاثنين، 11 يوليو 2011

تركيا (2)




في إسطنبول الجمال ينشر ألوانه، الماء الصافي الرائع، اللون الأخضر ينشر ألقه، التاريخ يتحدث، الحياة الساحرة تضفي رونقا خاصا. تمشي في إسطنبول فترى الحياة كيف تمشي أمامك، الكل يبحث عن السحر والجمال، ليس أولئك الذين أتوا من البعيد فقط، بل حتى أهل البلد خرجوا باحثين عن سر الحياة المتدفقة على أرضهم.



 

إسطنبول-القسطنطينية قديما- بشقيها الأوربي والآسيوي، يفصلهما مضيق البوسفور، كل شيء جميل هنا فأطلق العنان لبصرك إن استطعت، الجمال هنا يكمن الهواء الذي تستنشقه، رائحة البحر النقي، عبق التاريخ، هنا جامع السلطان أحمد ومتحف آيا صوفيا وقصر السلاطين "توب كابي"، هنا جامع السليمانية، هنا مضيق البوسفور وروعته الليلية والنهارية، هنا الحدائق والمنتزهات الجميلة، هنا الأسواق والشوارع التجارية، هنا الحياة التركية التي تحكي بيئة الأتراك ومعيشتهم.



السائحون يتوافدون من كل حدب وصوب لزيارة تركيا، فلا تصدق عينك عندما ترى قوافلهم تقف في مرمى البصر هنا وهناك، تملأ الأمكنة، الشواطئ، العَبَّارات، الحدائق والمنتزهات، حقا إنها بلاد تجعل السياحة من أولويات دخلها، وحقا إنها بلد تجبر السائح على التوافد عليها.



 
ركبتُ العبّارةَ في رحلة صباحية لمضيق البوسفور، مررنا بأجمل المناطق السياحية على المضيق، على أبرز المعالم التاريخية والسياحية، على القلعة التي بناها محمد الفاتح على البوسفور على هيئة اسم "محمد"، على الجسور المعلقة، على الشقين الأوربي والآسيوي، وكم كان الجمال مختلفا عندما ركبتُ مرة أخرى بالليل، إن المكان واحد، والجمال يختلف، روعة الجمال وسحره بالليل، الهواء العليل، ألوان الجسور المعلقة التي تخالط ماء البحر وتمنحه لونها، كم هي متعة تلك الرحلات.



 

الأيام تمضي، وأنا على وشك العودة إلى أرض الوطن، طيارتي تقلع مساء الغد، لتركيا مساحة كبيرة في ذاكرتي، ستظل كذلك فلربما أعود لها يوما لأرى ما أبقيته في هذه الذاكرة.

الجمعة، 8 يوليو 2011

تركيــا




في نصف يوم فقط تنقلت بثلاث وسائل مختلفة، في الجو أربع ساعات ونصف، وفي البحر ساعتان إلا ربع، ومثلها بَرَّا. لم تكن تركيا إلا خياراً منطقيا لهذا الصيف، الذي تتصارع فيه الدول مع نفسها ومع غيرها، في وقت تتهيأ فيه تركيا لاستقبال آلاف السائحين لأرضها. الخيار الأول هو تركيا، فبقية الدول الأوربية كان يهددها "بركان أيسلندا الثاني"، والدول العربية لم تنفض عنها بعد غبار التغيّر والتغيير، ودول شرق آسيا جاءت خيارا ثانيا. وأنا أقرأ عن أردوغان وجهوده الكبيرة في الرقي بتركيا، والفرد التركي، وعن مشاريعه المستقبلية الكبيرة التي يخطط لها من أجل النهوض بتركيا اقتصاديا، كان لابد من التعرف على هذا البلد والتخطيط لزيارته في أقرب فرصة.



إنه الصيف إذن، هذا الزائر الذي بدأ يطرق الأبواب والنوافذ هذا العام قبل أوانه، سأقتطع منه أياما قلائل للسفر. سمعت كثيرا عن تركيا ولكن من استمع ليس كمن رأى. أنت في تركيا، في اسطنبول بالتحديد، القسطنطينية سابقا أرض محمد الفاتح، البشارة العظيمة التي بشر بها الرسولُ المسلمين، تركيا العثمانيين. كل شيء هنا في تركيا جميل ورائع، أو هذا على الأقل هو الانطباع الأول لي، فالجو مختلف تماما عما كان في الخليج، ورائحة الأمطار تملأ المكان على غير العادة في مثل هذا التوقيت من العام، الطقس معتدل يميل إلى البرودة، نشرة الأحوال الجوية هذه بعثت داخلي ارتياحا جميلا لهذا المكان.



من المطار في اسطنبول، وبالعَبَّارة إلى مدينة بورصة، كانت الحياة التركية تشغلني، رأيت حركتهم، لغتهم، ابتسامتهم، صمتهم كصمت الجبال التي تحيط بمدنهم. البحر أزرق كعادته، والمسافة تطول ولا تمنحني إلا الرغبة المُلحَّة للوصول. أول يوم أقضيه في مدينة بورصة كان هادئا، وبسيطا بعد رحلة طويلة مع الكراسي، كرسي السيارة إلى مسقط، كراسي مطار مسقط، كرسي الطائرة، كرسي السيارة من المطار إلى المرفأ، كرسي العَبَّارة إلى بورصة، كرسي السيارة إلى الفندق.






 
بورصة مدينة جميلة، أعجبتني الحركة السياحية التي بها، متاحف ومساجد تاريخية، أسواق تقليدية وحديثة، مدن على الطراز العثماني القديم، شلالات وبحيرات، حدائق ومتنزهات، كنت أبصر كل ذلك وأتساءل عن مدى توافر شيء من ذلك على أرضي، فحكومتنا أولت الجانب السياحي اهتماما كبيرا ولكن هل تحقق الشيء الذي يخدم السائح والزائر. رأيت كيف الاهتمام الكبير بجبل أولوداغ وطريقة الوصول إليه بالتلفريك، إنه عمل يخدم السياحة لديهم. أتذكر مرة أنني كنت في رمال الشرقية مع بعض الأصدقاء ووقفنا عند بعض الاستراحات هناك وأراد أحدنا أن يستأجر دراجة، فسأله الشخص الذي يؤجر هل أنت نازل في هذه الاستراحة؟ إذ أن استئجار الدراجات مقتصر على نزلاء الاستراحة، وبقيت الدراجات واقفة مكانها. نحتاج فعلا لعدة عمليات جراحية للوقوف الجدي على مفهوم السياحة.




 

ثلاثة أيام قضيتها في بورصة، ويوم واحد في يالوفا، المشهد جميل ورائع ، والطبيعة تسحر العيون، وكما قال لي ذلك التركي عندما سألني هل هي المرة الأولى التي تزور تركيا؟ فقلت له نعم. فقال بالتأكيد ليست الأخيرة، إذ يبدو واثقا وهو يتحدث بذلك، فكل شيء يحملك على العودة، الطقس الرائع، الطبيعة الساحرة، الأمان الذي ينشده السائح، كل شيء يحملك على العودة. أحببت الطبيعة في بورصة الخضراء كما يصفونها، وأنا الآن في إسطنبول ويبدو أنني سأستمتع بجمالها أيضا. /يتبع



الأربعاء، 29 يونيو 2011

روااااااااااااااااائح 2



اليوم انتشرت الروائح انتشاراً عجيبا في سماء المنطقة، وأنا ذاهب إلى صلاة الفجر كنت أغطي أنفي كي لا أشم تلك الروائح، وأفتحها قليلا لكي أتنفس، وفي الحالتين كنت أختنق.

المسجد ممتلئ بتلك الرائحة السامة، البيت كذلك ممتلئ بها، لا يوجد مكان لم تصل إليه الروائح. وقد ظلت داخل البيوت إلى ما بعد الساعة العاشرة صباحا.

الإنسان عنصر التنمية الأول يظل يصارع الأمراض الناتجة عن هذه السموم، ولا أحد يحس بمعاناته أو شكواه إذا قدم أو طالب بما يكفل له الحياة الصحية الآمنة. الكل يغض الطرف عما تخلفه المصانع والشركات، والجهات المسؤولة لا تكفل الحق للمواطن في مواجهته للمتسببين في ذلك.

نسأل الله الرحمة والعافية. وإلى الله المشتكى.

الجمعة، 24 يونيو 2011

روااااااااااااااااائح


ما زلتُ أذكرُ ذلك الرجلَ الكبيرَ في السنِّ الذي وقفَ في مسجدِ قريتنا منذ سنواتٍ وهو يصرخُ: (يوم القيامة اقترب) وذلك لأنه رأى في المنام ناراً تقتربُ من جهة الشرق فتطرد الناس إلى الغرب. الشرق كان جهة البحر، البحر الذي كنا نرتاده منذ الصغر، نسيمه يهب عليلا وصافيا على القرية.

كم نشتاق لهذه الرائحة الآن، رائحة الأرض والنخيل وأنت ذاهب إلى صلاة الفجر، كل ذلك كان من الماضي، الروائح التي تملأ البلد الآن هي السموم بعينها، وذلك من إنشاء ميناء صحار مقابل البلد.


إنشاء الميناء هنا مشروع اقتصادي يدرُّ أرباحاً وفوائد على الدولة، ولكن ما تعانيه المنطقة والمواطن هي الروائح التي تُمرضُ الناسَ باستمرار، بالأمس كانت الروائح المنبعثة من المصفاة والمصانع القريبة، ومن ثم توالت الروائح من الشركات الأخرى كـ"فالي" وغيرها التي تستخدم بودرة تتطاير في الجو ثم تسقط على البيوت والسيارات. أضف إلى ذلك مخلفات هذه الشركات من السموم التي تلقى في مرادم غرب المنطقة والتي حولت المكان إلى أشبه بالمنطقة البركانية التي تتصاعد أدخنتها.


اليوم نجد هذه الروائح تدخل إلى منازلنا عنوة، وإن قمنا بتغطية الأبواب والنوافذ بقطع قماش فإن ذلك لا يجدي، حتى المكيفات المركزية لم تستطع المقاومة أمام هذه الروائح التي سببت العديد من الأمراض للناس كالإجهاض، والحساسية، والسرطانات التي أصبحت متفشية.


الكل يتساءل عن الاشتراطات البيئية والصحية قبل تنفيذ أي من المشروعات. الكل قام بمغادرة المنطقة وذلك ببناء منازل جديدة في مخططات أخرى كلفتهم مبالغ طائلة . ولكن الروائح ما تزال تطاردهم. فلا حول ولا قوة إلا بالله.

الخروج من معرَّة النعمان



  تروي كتبُ التاريخِ "أنَّ صالحَ بن مرداس صاحب حلب، خرج إلى المعرة وقد عصى عليه أهلها، فنزل عليها، وشرع في قتالها، ورماها بالمناجيق. فلما أحس أهلها التغلب سعوا إلى أبي العلاء، وسألوه الخروج إليه والشفاعة فيهم عنده، فخرج متوكئا على يد قائد له. وقيل لصالح: إن باب المدينة قد فُتِحَ، وخرج منها رجل يُقادُ كأنه أعمى. فقال صالح: هو أبو العلاء!". قال له أبو العلاء: "مولانا السيد الأجل، أسد الدولة ومقدمها وناصحها، كالنهار الماتع اشتد هجيره وطاب أبرداه، وكالسيف القاطع لان صفحه وخشن حداه (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين). فقال صالح: قد وهبتها لك يا أبا العلاء. وأمر بخيامه فوضعت، وبأثقاله فرفعت، ورحل عنها.





لقد قدمت المعرة أبا العلاء شفيعا، فهو كبيرها، ورأس العلم فيها، وهكذا تقدس الأمم عظماءها وكبراءها، وهكذا تقدر الفضل، وهكذا يرفع العظماء قدر الأماكن التي يقطنونها.

بعد ألف عام وقليل على رحيل أبي العلاء عن المعرة، هاهي المعرة تبحث عمن سيخرج شفيعا لها أمام الدبابات والجيوش السورية التي تجتاح أرضها، تبحث عمن يوقف القتل والخراب ويقول :(خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)، تبحث عمن يحقن دماء الأبرياء في المعرة، تبحث عن كل ذلك وروح أبي العلاء تملأ أرض المعرة صخبا وحياة.

















الخميس، 12 مايو 2011

؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟


(إِذا أَعْدمنا بن لادن فسيقيمون له الأضرحة، وإذا اعتقلناه فستتصاعد الحرائق... إنه وضع ينطوي على خسارة في كل الأحوال.)

                  كليفور دبيل
                 رئيس تحرير نشرة جينز العسكرية

الاثنين، 25 أبريل 2011

نووووووم الدجــــاج


     أيامُ أوَّل كان كبارُ السّنِ يطلقون على الذي ينام أول الليل بأنه نائمٌ نومةَ الدجاجِ؛ وذلك لأنَّ الدجاجَ وفي أعرافِهِ لا يجيدُ فلسفةَ السَّهرِ بل ولا يحبُّه، ربما لأنه مرتبطٌ بالتزاماتٍ صباحيةٍ باكرة.


     هذا عند الحديث عن الدجاجِ، فماذا ترى أجدادنا سيقولون لو سمعوا عن مراكزنا الصّحيّةِ التي تغلقُ أبوابها الساعة التاسعة مساءً؟! هذه حقيقةٌ ينبغي ألا نغمض أعيننا عنها، المراكز الصحية تغلق في الساعة التاسعة وعلى الشخص الذي حصل له مرض مفاجئ أن يتجه إلى أقرب طوارئ مستشفى، وحدِّث ولاحرج عن طوارئ المستشفيات التي إن دخلتها الساعة العاشرة لا تخرج إلا في ساعة متأخرة بسبب الازدحام العجيب. ورغم هذا الازدحام فإن الوزاة لا تزال تغض الطرف عن توقيت بعض المراكز الصحية.

هذا الأسبوع ونتيجة لوعكة صحية طارئة توجهت لمركز صحي في ولايتي وعند الوصول وجدت قضبان الأبواب الخارجية مغلقة والأنوار قد أطفئت بما نسبته 90%، وعندما نظرت إلى ساعة السياة وجدتها التاسعة وخمسة وعشرون دقيقة!! توجهت إلى بعض العيادات الخاصة فكانت أيضا مغلقة، والصيدلية أيضا مغلقة، سبحان الله ليس هناك سبيل إلا التوجه للمستشفى الرئيسي في الولاية المجاورة، حتى انتهى بي الأمر في عيادة صغيرة.

الأمر يحتاج لتفسيرٍ وبحث، ربما المسؤولون يرون أن العمل في المراكز ينتهي بنظام الفترتين والفترة الثانية تنتهي في التاسعة، لكن ألا يمكن الاستثناء لمد الوقت لساعة في كل فترة فينتهي العمل في الحادية عشرة على الأقل، بدلا من التوجه لطوارئ صحار.أما عن الطوارئ فحدث ولا حرج تحتاج لمعجزة للدخول إلى الدكتور؛ فالممرضة تقرر في الفحص الأولي موعد دخولك ومدى ضرورة ذلك.

أحضرتُ طفلا من أسرتي لم يكمل العام بعد، وكان يبكي بكاء شديدا لا يعرف سببه، ومع ذلك لم يقتنع حارس الأمن بدخوله بحجة الأولوية، مع أني كنت أنظر للجميع ولم أر أي بادرة ألم تظهر على وجوه الجميع في حين أن الطفل كان يبكي بشدة ويتألم، إلى أن حنَّ قلب ممرضة وافدة (غير مسلمة) للطفل فأدخلته للعلاج رغم إصرار حارس الأمن أن هناك من جاء قبله، حتى صرَخَت هي في وجهه قائلة : " إنه طفل".

هذه قصة واحدة، وللقارئ أن يزور أماكن الطوارئ ليرى العجب. هذا الأمر ستقل حدته نوعا ما لو ظلت بعض المراكز مفتوحة لساعات إضافية،فيقل الضغط على المستشفيات الرئيسة،  لا أن تغمض مراكزنا الصحية أعينها مبكرا كما تفعل الدجاج .


السبت، 26 مارس 2011

عن اليوم العالمي للشعر

 


تَخيَّلُوا الحَياةَ بِدونِ شِعْرٍ، إِنَّها كالسَّماءِ بِدونِ طَائرٍ. الشِّعْرُ لُغَةُ الكَوْنِ، ولسانُ الأُمَمِ والشُّعُوبِ، ومنذُ القِدَمِ كانَ الشَّاعِرُ لسانَ قَبيلتهِ، يُدَافِعُ عنها، ويفتخرُ بمآثرِ عُظَمائِهِ. ولليومِ فلا أحد يعرفُ ماهية هذا الكائنِ الذي يُؤَثِّرُ في النُّفوسِ، ويَهِزُّ الوجدانَ. لقد صارَ الشِّعْرُ الغيمةَ التي تُمْطِرُ في الصَّحراءِ فتُحَوِّلها خضراءَ مزهرةً.

 

نحن نَتَحدَّثُ عنِ الشِّعْرِ وقد أصبحتْ لغتُهُ متفجرةً نابعةً من فَوْضيةِ الإبداعِ ذاته، الابتكارُ سيِّدُ القصيدةِ، والتَّجديدُ رِهانُها الرَّئيسيُ، والنَّاظرُ في تاريخِ القصيدةِ العربيةِ يجدُها متطورةً، حيةً، باعثةً روح الحياةِ في النَّفْسِ الإنسانيةِ، وهي تُفْضي بذلك إلى الخُلُودِ الأبديِّ. لقدْ مَرَّتْ على أديمِ القصيدةِ ركابُ شعراءٍ قَدَّمُوا للقصيدةِ أسراراً، وسارُوا مُحَمَّلينَ بعبقِ الكلمةِ والشعرِ، فَعُرِفُوا بها وعُرِفَتْ بهم. تلاصُقُ الأرواحِ هذا بينَ الاثنينِ كان نتيجةَ لحظةِ عشقٍ يَختلي فيها الشَّاعِرُ بروحه، بقلمه، بصفحته البيضاءِ عندما يتخيَّلُ الحياةَ بحجمِ القلبِ الذي يعشقُ ويُحِبُّ. عندما نذكرُ الشِّعرَ فإننا نذكرُ المتنبيَ وعلاقتُه بالقصيدةِ حين ينشدُ "أنا الطائرُ المحكي والآخرُ الصدى"، نذكرُ أبا العلاءِ المعرّي حين تصبحُ القصيدةَ عصاهُ في الظلمةِ وقد أتى "بما لم تستطعه الأوائلُ"، نردِّدُ خمرياتِ أبي نواس، وبديعياتِ أبي تمام، نطوفُ بالشامِ والأندلسِ والعراقِ ومصرَ والحجازِ بحثاً عن قصيدةٍ ترسمُ ملامحَ الإبداعِ العربيِّ الطويلِ.

 

إِنَّنا نَحْلُمُ كشعراء بأنْ تكونَ القصيدةَ هي المرآةُ التي تنقلُ صورةَ الواقعِ الشعريِّ، صورةَ القصيدةِ ذاتِها، أنْ نحترمَ خصوصيةَ القصيدةِ، وتكوينِها الشِّعريِّ، أنْ نتعاملَ معها بحذرٍ شديدٍ، لنكوِّنَ منها الخطوةَ الأولى على سُلَّمِ الشّعرِ الطَّويلِ. نَحْلُمُ بالقصيدةِ التي تكتبُنا قبلَ أنْ نكتبَها، فعلاقةُ الشاعرِ بالقصيدةِ علاقةٌ وثيقةٌ تكونتْ على مدى تاريخِ البشريةِ الطويلِ، هكذا كانتْ، وهكذا نريدها أن تكونَ، وأن تبقى.

 

خالد علي المعمري
21 مارس 2011م







الأربعاء، 9 مارس 2011

قم للمعلم...


    

     يتطلَّعُ الميدانُ التربوي بجميع كوادره في هذه الفترة إلى العديد من الإصلاحات المرتقبة داخل بيته الكبير، تأتي هذه التطلعات بعد المرسوم السلطاني بتعيين وزاري جديد للتربية والتعليم خلفا للوزارة السابقة المتمثلة في الوزير ووكيل التربية.

التطلعات التي يبحث عنها القائمون في الميدان هي التي دفعتهم طيلة الفترة السابقة لاعتصامات عديدة، مقدمين اعتراضهم على الحال التي وصلت إليها التربية والتعليم. عريضة المقترحات التي أرسلت لم تكن حلما صعب التحقيق، بل هي الأقرب إلى النور لو وضعت لها الدراسة الخاصة بها، والوقوف على نتائج التجارب السابقة. اقتراحات يرى الكثير من أبناء الميدان أنها كفيلة بأن تعالج السوء والضعف الذي بدأ يدب في جسد التعليم العماني، والذي أصبح بعد أربعين عاما من النهضة لا يُقدِّم إلا مخرجات لا تجيد القراءة والكتابة. اعتصامات مبررة من قبل الذين عايشوا الواقع التربوي وأحسوا بأنهم لا يملكون من التعليم إلا المسمى الوظيفي فقط، غير ذلك فهم لا يجدون التقدير والاحترام من الجهة المسؤولة. في رأيهم تربية لا تقدر العاملين فيها، وتمارس كل جوانب الضغط النفسي في اليوم الدراسي تربية لن تنتج إلا الضعف والسوء.

الواقع اليومي يحكي أكثر من ذلك، ولك أن تجلس مع معلم ليبث في وجهك الهموم وكأنه ينفث من سيجارته اللهب الحارق. كَثُرتْ شكاوى المعلمين حول ارتفاع أنصبتهم غير المبررة والتي قد تصل إلى 28 حصة وأحيانا إلى أكثر من ذلك في حين يراها المسؤولون شيئا عاديا في التعليم الأساسي!!، كثرت شكاوى المعلمين حول الأعباء الورقية والأنشطة التي تستنزف الوقت والجهد، كثرت شكاوى المعلمين حول المسابقات التي ليس نتيجتها إلا بروز المسؤولين وتراجع المستويات الطلابية لكثرة خروجهم من البيئة الصفية للمشاركة الخارجية، كثرت شكاوى المعلمين حول اللجان الزائرة والتي تأمر وتنهى وتطلب وتحذف، الأمر الذي يسبب صداعا وحيرة وتشتتا للمعلم، كثرت شكاوى المعلمين حول المناهج المحشوة وحدات وفصولا قد لا يستفيد منها الطالب لأنه وعلى أية حال لا يجيد القراءة والكتابة، كثرت شكاوى المعلمين حول طول اليوم الدراسي الذي يحيل رؤوس الطلاب إلى ما يشبه بندول الساعة والتفكير في السرير والوسادة ووجبة الغداء، كثرت شكاوى المعلمين حول مسابقة النظافة والصحة في البيئة المدرسية التي أمر بها مولانا حضرة صاحب الجلالة والتي فهمها المسؤولون على طريقتهم والتي لم تولد لنا إلا طلابا لا نرى وجوههم في الصفوف إلا في الفترات حيث يتم تدريبهم لشهور طويلة، وفي النهاية فإن الطالب ما إن ينتهي من أكل وجبة المقصف المدرسي حتى يُلقي بالمخلفات في ساحة المدرسة، كثرت شكاوى المعلمين حول آليات التقويم التي تتغير في السنة الواحدة أكثر من مرة ولا تعطي أي مصداقية في نهاية العام لأن إدارات المداس تتحكم بالنسب العامة للنجاح، كثرت شكاوى المعلمين ولكن لم يرد أحد على تلك الشكاوى، أو تم معالجة شيء بسيط من ذلك.

أصبحت المتطلبات التربوية هماً ثقيلا في رأس العاملين في الميدان، والكل يطالب بتعديلات تعالج المخرجات السنوية، والدور الملقى على كاهل الوزارة الجديدة ليس بالدور البسيط إذ يتطلب النهوض بمستوى التعليم وفق رؤية جيدة شاملة ورفيعة.

الأربعاء، 2 مارس 2011

صباح الخير يا عمان...


*كان متوقعا أن تمرَّ بلدنا الحبيبة بما مرَّت به بعض الدول الأخرى في المنطقة، ليس من باب التقليد، ولكن من باب الجو المناخي الذي ولَّد نوعا من الحرية لإطلاق الأصوات عاليا، والضغط يولد الانفجار.

*خلال الأيام السابقة، وبالتحديد يومي الأحد والاثنين، عاشت عمان لحظات جديدة في حياتها الحديثة، الكل يُجمع على أن ما قام به الشباب حقٌ يكفله لهم القانون. المطالب كانت بذرة الأيام السابقة، تراكمات طويلة ترسَّبتْ في نفوس هذه الفئة. خرجوا مطالبين بحياة أفضل تواكب الزمن الذي يعيشونه. ما كان ينقص هؤلاء الشباب هو التنظيم في طريقة التعبير وإيصال مطالبهم للمسؤولين.


*الدماء التي سالت على الإسفلت، دماء عمانية، استنشقت هواء هذه الأرض، تغمَّدها الله بواسع رحمته، قدمت روحها من أجل أن يبقى الوطن شامخا، والمواطن عزيزا، لها كل احترام وتقدير، هل ستكون هناك محاسبات لمن قاموا بتلك الأعمال؟ ألم تكن هناك طريقة أخرى للتعامل مع الشباب إلاها؟ هل استنفذت قوات الأمن الطرق السلمية معهم؟

*في المقابل قوات الأمن جزء من الوطن والمواطن، هم أبناؤنا، إخواننا، حماتنا. لا ينبغي أن نحملهم كل ذنب. والحقيقة عندما أحست فئة قليلة من المخربين بانشغال الأمن بهذه الأحوال قامت بعمليات تخريب في المجتمع وإلقاء الرعب والخوف في نفوس المواطنين. آلات الصرف الآلي تم تعطيلها، أعمدة إنارة الشوارع تم تكسيرها، المحلات خائفة على أموالها، المؤسسات تم إغلاقها. ألسنا في حاجة لقوات الأمن في هذا الوقت؟ إذن الطرفان مسؤولان عن بناء الوطن واستقراره وأمانه، لا أن يصطدم بعضهم مع البعض.

*الشكر للمثقفين العمانيين الذين أبرزوا دورهم في هذه المحنة، وسطروا رأيهم وقالوا كلمتهم، والشكر لذوي العقول والرجاحة على تهدئة الأمر والوقوف مع الشباب وتبصيرهم فيما يخص الاعتصام الذي حصل.

*صباح الخير يا عمان، في كل وقت أنت أجمل وأجمل، بأبنائك أجمل، بقائدك أجمل. ستظلين كذلك أبد الدهر.

الثلاثاء، 15 فبراير 2011

ها أنت أيها الوقت لأدونيس



" ... إنها فتنة الأسئلة. إنها فتنة الشعر. سلاما، سلاما."

بهذه الكلمات يختتم أدونيس رسالته إلى يوسف الخال، ويختتم كتابه "ها أنت أيها الوقت" بعد أن استعرض سيرته الشعرية الثقافية. كتاب أدونيس هذا جاء محملا بذكريات أدونيس، في فترة ربما هي من أجمل ذكريات حياته، لا سيما وأنها شهدت ميلاد حياة أدبية جديدة على الساحة الأدبية الشعرية، ميلاد إصدار مجلة شعر، والتي كان لها منعطف كبير في تيار الشعر العربي المعاصر، في وقت كانت فيه بيروت تنفجر شعرا، وتكاد تستلم زمام الحياة الأدبية من القاهرة.



مجلة شعر تستحوذ على النصيب الأكبر من سيرة الكتاب. هي مجلة نشأت في الخمسينات أسسها يوسف الخال وأدونيس وغيرهم صدر عددها الأول في العام 1957م. تتناول الشعر، وقضاياه. لم تكن مجلة شعر كما يقول أدونيس مشروعا محاربا للقديم بل هو مشروع تحاور واستكمال و"تأسيس لمرحلة جديدة في الشعر العربي" . بصدور العدد الأول كانت الهجمات تزداد على المجلة ومؤسسيها. تنوعت مواضيع العدد الأول من المجلة بين قصائد لشعراء كسعدي يوسف ونازك الملائكة وبدوي الجبل وفدوى طوقان ويوسف الخال وأدونيس وغيرهم، ودراسات نظرية ونقدية، وترجمات شعرية.



أدونيس تحدث في كتابه عن دور مجلة شعر في ذلك الوقت، وما قدمته للشعر العربي الحديث، تطرق إلى علاقته بيوسف الخال منذ لقائهما الأول إلى ما بعد ذلك، فكانت هذه العلاقة إفرازا أدبيا ثقافيا يُقَدَّم للقارئ العربي، أسهم فيه الاثنان بشكل كبير بالتنويع في الكتابة الأدبية آنذاك.



تطرق أدونيس في حديثه عن الشعر إلى عدة قضايا منها،العلاقة بين الجديد والقديم يقول عنها:" العلاقة بين الجديد والقديم ليست كما يشيع خطأ، علاقة منابذة وتناف، فالشعر لا ينفي الشعر وإنما على العكس يثبته. فحين كنا نستعمل عبارات مثل "تجاوز القديم" أو "رفضه"، لم نكن نعني رفض الشعر الذي كتب في الماضي، أو تجاوزه فهذا مما لا يصح قوله، وإنما كنا نعني أنه إذا كان لدينا نحن الشعراء العرب في العصر الحاضر شيء نقوله مختلف عن الأشياء التي قالها أسلافنا ، فلا بد من أن نقوله بطريقة مختلفة..."



علاقة أدونيس بيوسف الخال لم تكن متطابقة كما يتحدث عنها، بل كان الاثنان مختلفين "فنيا وفكريا"، لكن هذا الاختلاف لم يقم الحواجز بين الاثنين فقد كان عملهما منتظما لا يعرقله هذا الاختلاف.ومن ضمن القضايا التي اختلف فيها الاثنان قضية اللغة، يقول أدونيس في رسالته ليوسف في آخر الكتاب:" يوسف، تذكر أننا لم نكن متفقين في كل شيء. غير أننا كنا نرى في اختلافنا عنصرا يعمق صداقتنا". ويصف أدونيس يوسف الخال شعريا فيقول:" كان يوسف الخال، في كل ما يتعلق بالشعر والكتابة، متواضعا إلى درجة الغياب أحيانا، لكن تواضع العارف، الواثق بنفسه وعمله." ويقول في موضع آخر:" كان في كتابته يكبح اندفاع العاطفة من أجل أن يطلق هدوء العقل."



ها أنت أيها الوقت، سيرة شعرية ثقافية لفترة بدأت الحياة الأدبية تأخذ طابعا جديدا، بدأ الشعر العربي يتشكل وفق خارطة أخرى، الخمسينات من القرن المنصرم كانت بوابة لعالم شعري جديد. دوَّنه أدونيس شاهدا على تلك الفترة. فالوقت يمضي ولا يبقى على هيئة واحدة. أنت أيها الوقت شاهد على الوقت نفسه.

الاثنين، 7 فبراير 2011

ثورة الفيسبوك


كنتُ في مطارِ جدّة الدولي في الخامس والعشرين من يناير. كنت أتابعُ أخبارَ الثورةِ التونسيةِ. قائدُ الجيش التونسي يقول: "الجيش حامي البلاد والعباد".  لم أكنْ أتوقع أن تندلع في هذا اليوم ثورة كبرى في أم الدنيا عن طريق الفيسبوك. 

يبدو أن الفيسبوك استطاع أن يقوم بثورته الكبرى، ليس في عالم الشبكة العنكبوتية فقط، بل اتسع ليشمل العالم الفسيح. الموقع الذي أنشأه مراهقٌ أصبح يخططُ ويدير العالم. أصبح اللسان الذي يعبّرُ بما لمْ يقدر أن يعبّر عنه الناسُ. كنت أفكرُ في وقت سابقٍ أن هذا الموقعَ كغيره من المواقعِ التي لا طائل منها إلا هدْر الوقت وضياعه، أما الآن فيبدو أن النظرة قد تغيرتْ، وتغيرت كثيرا.


ثورة شباب الفيسبوك في مصر، كشفتْ جوانب عديدة في الشارع المصري، كشفت النهاية التي تصلها الحياة، فلا شيء باق، أممٌ تسقطُ، ملوكٌ تركوا عروشَهم، المكان هو ما يبقى شاهدا على المرجعية التاريخية.

هذه الثورة كشفت هشاشة الإبداع المصري في الفن، كم كان المخرجون والفنانون ينقلون تلك الصورة البيضاء للنظام في مصر، وهم في ذاتهم يدركون الحقيقة التي يرفضونها، فما إن بدأت الثورة حتى بدا أولئك الفنانون في طوابير الثورة بعضهم خلف الحزب الفلاني وبعضهم خلف المعارِض الفلاني، وبعضهم يؤيد فلان، وبعضهم يصرخ في وجه فلان، وبعضهم يَبْكي ويُبكي الجماهير، أليسوا هم من كانوا يلوِّنون الصورة ويحرجونها لنا.

أحببنا مصر.. سافرتُ هناك، وكنت على موعد للسفر إليها في هذا الوقت ، لكن الموعد ذهب أدراج الرياح. ما يحدث هناك يشوه هذا الجمال المصري الذي عشقناه طويلا . كم اتمنى أن يعود الهدوء والجمال والضوء لهذه البلد، ويحب بعضهم بعضا عوضا عن التناحر والتقاتل في سبيل تشويهها.

الثلاثاء، 11 يناير 2011

قراءة في قصيدة «كظل يقرأ منفى الرمل» لخالد المعمري

قراءة في قصيدة «كظل يقرأ منفى الرمل» لخالد المعمري



الثلثاء, 11 يناير 2011


الفائزة بالمركز الأول في مهرجان الشعر السابع


أحمد بوهاني

الموت فضيحة الشاعر، فضيحته التي لا تغتفر. لماذا؟ يقول الأديب والناقد الفرنسي موريس بلانشو: «إن الشاعر، ككل إنسان يتكلم ويكتب، يموت دائما قبل أن يدرك الصمت، ولهذا فإن موته يبدولنا دوما سابقا لأوانه، كذبة تتوج صرحا من الأكاذيب»(1)


إن قصيدة خالد بن علي المعمري "كظل يقرأ منفى الرمل"، تلخص في بعض محاورها الرئيسية هذا السعي المضني إلى الصمت، صمت اللغة، ومن ثمَّ صمت الخطاب الشعري. إن كان للشعر من وظيفة أوجدوى فإنما هي محاولة تخليص الخطاب من الحضور الكثيف والمرهق للأشياء ولعقلانية الخطاب نفسه. من هنا يمضي الشاعر "لأرصفة الكلام الهش" موقنا أن لا سبيل أمامه لكسر صلابة الأشياء وثقل اللغة سوى ما يتيحه الشعر من أكاذيب. وعلى هذه المسافة الفاصلة بين حقيقة الخطاب المثقلة بالمادي والمحسوس وبين رغبة الشاعر في إسكات الخطاب وإفراغه من ماديته، على هذه المسافة كتب خالد المعمري قصيدته.


«الآن تختصم المسافة في جرائدك القديمة؟!».


هذه المسافة الطويلة أواللامتناهية التي يطمح الشاعر إلى قطعها هي الساحة التي تتحرك فيها ذات الشاعر المليئة بشوق إلى الغياب يصل حد الشبق. ولما كانت هذه الساحة ملكا خاصا لشاعرها، كان له حق المشي على "إسفلتها" وحق إعمارها بما شاء.


فلننسحب قليلا من ساحة الشاعر الخاصة ولنعلُ بنظرتنا لنرصد من الأعلى حركة الشاعر (أي إيقاع القصيدة) وسط هذه الساحة: في منطقته الحرة يستحضر الشاعر ما غاب منه، من ماضيه ومن ماضي المكان، ذكريات تؤثث غربته النفسية وتعينه على احتمال العزلة واستيعابها. هاهنا "كوخه المهدوم" و"أكوام قش"، هناك "سلالم هجرة كانت هنا" وهنا "غابات النخيل". هكذا تبدوالمسافة أقل غربة وانفصالا عن الشاعر وقد أعمرتها "أغنيات طفولة". ولكن الماضي الشخصي للشاعر وللمكان وهم ينكشف كلما استدرجت المسافة الشاعرَ إلى ظلمائها. هذا الوهم بقدر ما يؤثث القصيدة ويمنحها بعدها الذاتي بقدر ما يمعن بالشاعر في عزلة ومنفى لا متناهيين. من ثمة نرى الشاعر "يحتسي كل المسافة" الفاصلة بين ذاته وبين المأساة اليونانية ليحضر "سيزيف" إلى ساحته الشخصية المتدثرة بكثبان الرمال والصمت. ترصد الكاميرا حركات الشاعر وهو يتوحد في طيفه الأسطوري لينصهر معه في طول المسافة ووحدة المعاناة:


"سيزيف" يكتب عن صحارى لم تكن،/عن صخرة ألقت بكل حكاية للأرض/قال رواتها :/لا عشبة تهب الخلود لمن يرى أن/الممات كظلنا"


ولا يولّد هذا التماهي مع "سيزيف" ومأساته إلا وحشة وقفرا في أرجاء الساحة الخاصة بالشاعر، مما يجعل المسافة داخل هذه الساحة فضاء نكرة يسكنه المجهول. هكذا تُنزع الألفةُ والسكينة عن أكثر الأشياء حميمية لدى الشاعر فيتسع المدى المسكون بالقفر واليباب. الصحراء، هذا اللامتناهي من المكان والزمان، لطالما وضعت الشاعر العربي أمام وحشة لا تدرك وأمام خلاء يتعدى قدرة اللغة على التسمية وعلى الإدراك. ولكن قسوة المشهد وفظاعة الصورة في ساحة المعمري تتجاوز ما ألفه الشاعر العربي من صحرائه. من يواجه خلاء الصحارى في هذه القصيدة لا الخيل ولا الليل ولا البيداء تعرفه، هو"سيزيف" القادم من جحيم يعرفه ويدرك أهواله وعبثية مصيره فيه إلى صحراء يخدعه سرابها وتنكره كثبانها وتلفظه شعابها. إنه الغريب في غربته، الغريب في ساحته الخاصة التي صيرتها المسافة "صحارى لم تكن". عقوبة المعمري لم يكن جرمها إفشاء سر الآلهة كما هو شأن "سيزيف" في قَصَصِ اليونان، وإنما إفشاء سر اللغة والسعي وراء إسكاتها.


لوتأملنا بعمق بنية القصيدة ونقاط تمفصلها لوجدناها تسير وفق ثلاثة محاور كبرى تتلخص كما يلي:


1- التأمل الشعري في الخطاب


(أرصفة الكلام الهش ـ لغة تناقش أبجديات التنفس تحت خارطة التوسل والمدد ـ كالصمت كانت ضحكة الكلمات ـ هي هكذا الكلمات في صمت الحقيقةـ هي هكذا الكلمات منفى العاشقين).


2- رغبة الشاعر أو الهدف المنشود: صمت الخطاب وإدراك الغياب


(الغياب هو الحضور لدمعة أزلية ـ ملأت طقوس غيابها ـ فارسا للجوع يشهر سيفه للرمل، للمنفى ـ ستكتب عنك ما ستخطه الصحراء في وجه اسراب ـ وللمدى فيك ابتسامة غائب)


3- الوعي بهول المسافة الفاصلة بين واقع وحقيقة الخطاب ورغبة الشاعر


(خطوة شاعر تمضي ـ فنجان شاي يحتسي كل المسافة بيننا ـ "سيزيف" يكتب عن صحارى لم تكن ـ الآن تختصم الجهات ـ ودوننا رمل يسافر ـ لو غطى بزرقته المسافة ـ لا سكة تهب الأخيرَ من الزمان لأول الأسفار ـ من أول الأصداء جئت ـ يا أيها الحب الذي اختزل المسافة كلها ـ الآن تختصم المسافة في جرائدك القديمة ـ نمشي باتساع الجرح وتسرقنا الجهات ـ تمشي فيورق جرحنا)


«إلى ما ترمي الكتابة؟ إلى تحريرنا مما هو كائن. وما هو كائن هو كل شيء، ولكنه بدرجة أولى حضور الأشياء الصلبة والمهيمنة، كل ما يحدد لنا مجال العالم الموضوعي. هذا التحرر يتحقق بفضل ما يُتاح لنا من إمكانية غريبة على خلق الخواء من حولنا، وعلى إيجاد مسافة بين الأشياء وبيننا».(2)


المسافة التي تخترق قصيدة المعمري هي إذن مسافتان: مسافة كائنة وهي الفاصلة بين الشاعر ورغبته في إسكات اللغة وإدراك الغياب، ومسافة منشودة يسعى الشاعر لخلقها « بين الأشياء وبيننا»، الثانية تمحو الأولى والأولى تجعل الثانية صعبة الإدراك إن لم تكن مستحيلة. داخل هذه الجدلية وبين هاتين المسافتين المتفاعلتين يتحرك فكر الشاعر وإيقاع قصيدته عله يقطع المسافة الأولى ويخلق الثانية، وكأنه القائل: "سأقطع هذا الطريق الطويل، إلى آخرى وإلى آخره "(3).


بِـ"لغة تناقش أبجديات التنفس" يسعى المعمري إلى الاضطلاع بهذه المهمة-الهاوية، ويتأمل طبيعة الخطاب وأفق الكتابة شعريا. هل من متنفس نحظى به نحن المحاصرين داخل "أبواب الرواية" وثقل الأشياء وعتمة ظلالها؟ هل في وسع الخطاب الشعري أن يحررنا نحن المقيمين في كلمات تخنقنا معانيها البالية واستعمالاتها التي لم نختر منها شيئا غير الانخراط في سياقاتها؛ سياقاتها التي هي منفى الكلام ومنفى الشاعر؟


منطلقةً من هذه التساؤلات الواعية وغير الواعية، تكتشف "خطوةُ شاعر" هول المسافة ومشقة السير في دروبها الوعرة. من هذا الاكتشاف تنبجس القصيدة "حبلى بكل خطيئة في الحب" سائرة نحو رغبتها: الصمت والغياب، فيكون التيه ويكون الضياع:






"الآن تختصم الجهات، ودوننا/رمل يسافر باتجاه قصيدة حبلى بكل/خطيئة في الحب."


تموت الجهات الست أمام الشاعر المسافر باتجاه النجاة من سلطة اللغة، تموت وليس له من وسيلة لإحياء سبيله إلا "خطوةٌ"، "أغنيات طفولة"، "سلم للغيم"،"أغنيات الحب" ودفتر صمته".


ترشدنا الموسوعة اللغوية "لسان العرب" لابن منظور إلى أن جذر كلمة "مسافة" هو "سَوَفَ" وهي كلمة تعني التنفيس والتأخير. وأما التنفيس فجذره "نَفَسَ" ينفس تنفيسا ونفساً أي روّحَ وفرَّجَ، وإن الريح من تنفيس الرحمان على المكروبين". ولقد تواترت كلمة "المسافة" في قصيدة المعمري خمس مرات، هذا بالإضافة إلى ألفاظ أخرى تنتمي إلى نفس الحقل الدلالي ومنها: سفر، سكة، الجهات، الأسفار، المسافر، جسر، هجرة، إلخ تحت سلطة الجذر اللغوي ترزح رغبة القصيدة في إدراك الصمت وقطع الطريق إلى نهايته، فالمسافة التي يستهلها الشاعر تبقى مجرد تأجيل وتأخير لفشل المحاولة، تنفيسا على المحاصرين بعبء الخطاب والمكروبين بعتمة الحضور المادي للأشياء.


مرة أخرى يجد المعمري نفسه يواجه قدر "سيزيف"، والآلهة التي يواجهها هي في ذات الآن الآلهة التي يود تخليصها وهي أيضا خصمه وسلاحه: اللغة. على مرأى من الجذر اللغوي المتسلط يبدأ حربه، ونزولا عند سلطته يحكم على محاولته لإدراك الغياب والصمت بالعبثية. عبثا يمشي على درب هذه المسافة فما سعيُه إلا تأخير للفاجعة كما يُنبئ بذلك ابن منظور. المسافة إذن لا تنبئ بقطعها ولا تترك أملا في ذلك فما هي إلا تأخير وإرجاء للفضيحة. ربما لهذه الأسباب كتب الأديب التونسي العظيم محمود المسعدي: «ليست الطريقُ طريقا حتى تكون بلا نهاية» وربما لهذه الأسباب تكون الكتابة "إطلالة على مدار الرعب": «طويلا يظل الكلام الشعري واقفا على تُخوم الصمت يجاهد ليكون.»(4)


في خضم هذا الجهاد في سبيل الكينونة الشعرية، (كينونة القصيدة وكينونة الشاعر إن كان من الممكن الفصل بينهما)، كانت قصيدة المعمري محكومة بجدلية المسافتين وثنائية الصمت والغياب، فهما مقصد كل قصيدة أصيلة:


"والغياب هو الحضور لدمعة أزلية/ملأت طقوس غيابها لما تنزلت الكرامة/يا أنا/للروح أغنية يفض منامها العطر /خلف غابات النخيل/لهذه الكلمات عطر سوف يمنحني الولوج لدفتر العشاق"


وفي موضع آخر:


"هل يا أيها المنسي بين حروفنا ستخون/هذا الصمت/حين تمر قافية وتسرق صبحنا؟!"


يقول موريس بلانشو: «عندما نكتشف في الخطاب قدرته الاستثنائية على الغياب والاحتجاج، فإن الإغواء يدفعنا إلى اعتبار الصمت الأفق الأوحد للكلام. الجميع يعلم أن هذا الصمت قد أرق الشاعر. ولكن ما ننساه أحيانا، هو أن هذا الصمت، في نظره، ليس شاهدا على فشل أحلامه ولا إذعانا لما يستعصي على اللغة ولا خيانة لها.»(5)


المسافة إذن لا تنتهي ولكنها "تنتهي ورقا تلطخ حبره بالماء". لا هو الصمت ولا هو الكلام، لا هو بياض الصفحة ولا سواد الحبر، فما عساه يكون؟ هو المحاولة. محاولة الصمت الذي لا يدرك، تبقى غير مُنجَزة ولكنها تخلق القصيدة وتؤسس كيان شاعرها. وأمام هول المسافة والرعب الذي تفتح عليه ليس أمام المعمري إلا اختزالها وقطعها افتراضيا لعل القصيدة تدرك غايتها فتُشبع رغبة الشاعر في الوصول إلى صمته المرتقب وغيابه المرتجى.


"هل انتظرتك أبواب الرواية كي تسطر/فصلها الأبدي /كي تدني من الزيتون غابة نرجس؟/ولعلها كانت كما كانت تريد /بأن تكون البحرَ، لو غطى بزرقته/ المسافة، وارتدى ألوانها /لحكى بأن الملح كان هدية /لأميرة نامت بحضن البحر،/لما حطم الماضون كل سفينة."


ويقول المعمري في موضع آخر:


" يا أيها الحب الذي اختزل المسافة/كلها"


"تختصم المسافة" ولكن "البحر يغطيها بزرقته" و"الحبَّ يختزلها". لماذا البحر والحب؟ إن أول وأعظم تجارب الحياة التي تضع الشاعر أمام صمت اللغة واحتباس أنفاسها هي حالة الحب. الحب هو ذاك الإحساس الذي يستعصي على اللغة فيخلق في أرحامها صمتا يفجر الصمت. "الحب هو إعطاء ما نفقد لشخص لا يرغب في ذلك"(6) والحب نار كلا نار. الحب تأجج النار في جسد وانطفاؤها فيه وليس في الآخر. الحب سريان الألف في تاء شبه مغلقة نصف مفتوحة، عصي على الكتابة ومستحيل مثلها. لهذه الأسباب ربما اختاره الشاعر ليفتض به المسافة التي لا تنتهي. وأما البحر فهو احتفاء بهزيمة وبحرية نورس أسلم خفقته للريح وانتظر. البحر احتفاء بسقوط الغامض من علاٍ وتدحرجه على المنحدر باتجاه هاوية تحنو عليه وتعلمه الكآبة. والبحر جمال يحتفي بغيبة العشاق عن قصيدته. والبحر امتلاء بكينونة متأصلة تسرد على مسامع الصخر والشعر ملحمة الوجود وتدون على جدار العدم قصيدة الغزل الأخيرة بحروف من زبد. والبحر بدائية توشم على صدرها انتشاء القصيدة بغياب المعنى. البحر كالحب: اتساع يضيق بالكلمات ويكتم أنفاس اللغة. وحدها اللغة المطلقة قادرة على استنفاذ البحر دون أن تنفذ. لهذه الأسباب ربما يمتطي المعمري فرسيه: الحب والبحر. وحدهما القادران على اختراق ما يفصل بين ثقل الأشياء وحضورها المادي في الخطاب وبين ما يطلبه الشاعر من صمت وغياب. ولكن الحقيقة عدو الشاعر، فهي تكشف لعبة الشعر وحيل الاستعارات ومكر الكتابة. لا شيء قد تغير:


"هي هكذا الكلمات في صمت الحقيقة/إنها/ما خانت الشعراء/أوكانت لهم جسرا يبيعون/الحكاية عنده/هي هكذا الكلمات منفى العاشقين/وذكريات وصولهم للغيب"






تحت وطأة الحقيقة ووقاحتها الجارحة يئن المعمري. ساحته الخاصة صارت أكثر غربة، والمسافة بلا أفق ولا خارطة، والحقيقة هي الحقيقة. من مسافر على طول المسافة وبطل يتجشم خطر إفشاء أسرار الآلهة يصير الشاعر منفيا في أرض قصيدته، تزيده معاناة حتمية مواصلة التجربة:


يا أيها المنفي: /كل مراجع التقوى كتبت حروفها/للغيم../للسفر الأخير وللمطر / هل مازلت تقتسم الحياة كما اقتسمت /الحب بين قبيلتين؟/يا أيها المنفي:/ألف تساؤل للظل /-كيف نكون قافية لهذا الظل-/نمشي باتساع الجرح، تسكننا دوائره /وتسرقنا الجهات/يا أيها المنفي:/غائرة بهذا الرمل أسباب الحنين إليك/وحدك تكتب المنفى،/فهل مازلت تقتسم الحياة كما اقتسمت /الحب بين قصيدتين؟"


ما الذي تبقى من ذاك الذي كان "فارسا للجوع، يشهر سيفه للرمل، للمنفى"؟ هل قُطع سيفه حين ارتطم حلمه بصخرة الحقيقة؟ أم أضنته المسافة وخانه الحب والبحر؟ من كان ينازل المنفى في ساحته الخاصة صار فريسة للمنفى، زادُه الجرح النازف وما تبقى من الحب. "لا جوع في روحه"، يقتسم الحياة كما اقتسم الحب بين قبيلتين وبين قصيدتين، وذاك انتصار قصيدته، فلا قصيدة تنهض إلا وصرعت شاعرها؛ لأنها الآتية من إشراف طويل على الهاوية، المقيمة على ضفاف الريح والسائرة بشموخ صوب المنفى.


ثم ماذا؟


لا شيء تقريبا!


" تمشي فيورق جرحنا/يخضر ما بين المسافة والحقيقة/حينما تمشي/ويفضحنا الممات.."



* شاعر من تونس



* المقاطع الواردة بين هلالين دون الإشارة إلى مصدرها هي مقتطفات من القصيدة موضوع البحث


(1) موريس بلانشو، النصيب من النار، ترجمة شخصية غير منشورة.


(2) موريس بلانشو: مصدر سابق


(3) من شعر محمود درويش


(4) محمد لطفي اليوسفي، لحظة المكاشفة الشعرية: إطلالة على مدار الرعب


(5) موريس بلانشو، النصيب من النار. مصدر سابق.


(6) جاك لاكان، (1901-1981) محلل نفسي فرنسي. اشتهر بقراءته التفسيرية لسيغموند فرويد ومساهمته في التعريف بالتحليل النفسي الفرويدي في فرنسا


وبالتغيير العميق الذي أحدثه في مفاهيم التحليل النفسي ومناهجه. (حسب رأينا الخاص لم يعد من الممكن قراءة فرويد بمعزل عن لاكان).