الجمعة، 7 ديسمبر 2018

سمكتا مطرح لحمود سعود




سمكتا مطرح

 السمكتان الواقفتان في وسط الدوار في مطرح لم يفكر أحد بهما، ولم تغريا أيّ صيّاد؛ ليحملهما لبيته لكي يلعب بهما أطفاله، أو لتكونا وجبة لذيذة لعائلته، ولم تتعاطف معهما ربات البيوت وهن قادمات من القُرى البعيدة إلى سوق مطرح. ولم تُلتف إليهما عدسات كاميرات السائحات الأوروبيات المندهشات من سوق الظلام.

وحده القط الجائع الواقف على الرصيف فكّر أن يقطع الشارع وساحة الحكاية، وأن يحاول الوقوف فوق رأس إحدى السمكتين في الدوار، ويسرد لهما قصة سلالاته الهندية، وكيف أصبح مُشردا متشردا في مطرح. وكيف تركته العائلة الهندية التي تركت روي ورجعت إلى نيودلهي لتستطيع الابنة الوحيدة للعائلة دراسة السينما الهندية، التخصص الذي حلمت به منذ كانت طالبة في المدرسة الهندية في دارسيت.

وقف القط الأسود على الرصيف يسرد حكاياته، التي مزجها ببعض الخيال الذي أزعج السمكتين، لم يعر العابرون والسائحات والسفن وأسماك ميناء مطرح أي انتباه لهذه الحكايات التي سردها القط الأسود.

سألت السمكتان القط عن بحار بلاده وعن أسماكها، أخذ القط يُغنّي ويبكي حنينا.

حدّثَتْ السمكةُ الواقف على جهة البحر من الدوار القطَ عن حنينها الأبدي للماء:

” في الليل عندما تنام مطرح وسوقها وقراصنتها وسفنها الضخمة، يصيبني الضجر، وأبدأ بالغناء للبحر، ربما سيُلتفت لصوتي. في ليلة كنتُ أغني وأبكي مرَّ عليّ صياد، وبدأ يصرخ وهرب”.

في اللحظة التي كانت تتحدث السمكة عن حنينها الأمومي للماء، حطَّ فوق رأسها طائر طار من إحدى السفن الضخمة الرابضة بكسل أبدي في ميناء مطرح، وبعدما أكل وجبة عشاء فاخرة خزق فوق رأس السمكة بدون أي تقدير للحوار الدائر بين السمكتين وضيفهما القط الأسود. قالت السمكة الواقفة على جهة المدرسة السعيدية لرفيقتها في الدوار وللقط:

ـ ماذا تريدان من طائر يأكل من فتات السفن الضخمة والصيادين؟ ماذا تتوقعان من طائر ترك صوته ونزل يتسول من الغرباء؟

 بعدما خزق الطائر فوق رأس السمكة، طار صوب سوق السمك لينام فوق سقفه، منتظرا قدوم الصيادين في الصباح.

قال القط لنفسه : ماذا أفعل بسمكة ضجرة ووحيدة ومهملة ومهمشة ومتسخة الرأس؟

 اقترب القط من الدوار محاولا تسلق السياج الذي يحيط بالدوار، من دون أن يلتفت جهة الشرق، في منتصف الشارع داست عجلات سيارة شرطة مسرعة، لتدوّن مخالفات مرورية رأس القط الأسود الذي كان في طريقه لتنظيف رأس السمكة الذي اتّسخ بسبب طائر السفن الضخمة.

عينا القط الميت عند دوار السمكة في مطرح شاهدتا الشرطيين يسجلان أوراقا ويضعانها على الزجاج الأمامي للسيارات. رأت عينا القط الميت كذلك رجلين يجلسان أمام مسجد الرسول الأعظم يناقشان حربا قادمة. قبل أن تخرج روح القط الأسود في الشارع تذكر الطفلة التي تدرس الآن السينما في إحدى جامعات الهند.

الشرطيان عندما رجعا من مهمة تسجيل الأرقام على الأوراق البيضاء وزجاج السيارات، مرّا مرة أخرى على دوار السمكة ( اللتان كانتا تبكيان في تلك اللحظة) دون أن يلتفتا إلى رأس القط الأسود الميت، سمعت السمكتان سائق سيارة الشرطة يقول لزميله : بعدني ورائي خط الباطنة.

رد عليه زميله: وأنا ورائي خط الشرقية.

قالت السمكة المتسخة الرأس لنفسها : وما دخل خط الباطنة والشرقية في دهس قط أسود؟ وصمتت.

امرأة أوروبية كانت تطل من شرفة الطابق الثالث من فندق النسيم شاهدت مشهد دهس القط، كانت تشاهد فيلما وثائقيا عن تاريخ القطط.

…..

في الليل سمع أهل مطرح سمكة تغني لقط ميت.

 

حمود سعود

الجمعة، 2 نوفمبر 2018

غفلة الساحر لمحمود الرحبي




غفلة الساحر/ محمود الرحبي

 

حين قرر كبير سحرة بهلا أن يتوب ، ويهوي بضربة السيف على عنق أسطورة السحر في عمان، كان عليه أن يصل إلى حيلة ليقطع بها الفرضة الموجودة في سوق نزوى ، التي يستظل بها ضحايا السحرة هناك ، حيث تتم المزايدة عليهم قبل سحبهم تحت الستارة التي تخفي بهجة الضيافة والأكل، ليصنعوا بهم ما يشادون من حوارق .

ولأن لك الغرفة لا يمكن قطعها إلا بيد أصحابها، فإن مشقة البث عن حيلة

أخذت وقتا طويلا في رأسه .

ومثل هذه المعارك كانت معروفة بين الطرفين ، واتيان الخروقات في التعامل مع الضحية ،حتى أن سوقي المدينتين كانا مثار العجائب في مسخها وابادتها ، فحين يأتي سحرة نزوى بفعل خارق في ضحية ما، وتنتشر بين الناس ، فإن سحرة بهلا لابد وأن يظهروا بخارقة أكبر، وتستمر اللعبة وفي ميدان الضحية وحدها ، دون أن يطال السحرة شيء منها، وحين قرر كبير السحرة في بهلا التوبة ، والامتناع عن أكل لحوم الناس والعبث بأرواحهم كان ذك بمثابة فتح شرخ عميق ، وسابقة مهدت تصدع وذوبان صناعة السحر في عمان .

كانت فعلة كبير السحرة هي أن يتحول إلى ضحية ، ويذهب إلى تلك الفرضة ، وحين دخل المدينة لم يتعرف مليه أحد من نزوى، حيث بدي ملثما وفي لباس البدو وعيناه تشعان بالحذر، وحين اقترب من لك الفرضة ، وجد فلا واسعا تتوسطه حصيرة سعفية يتوسطها مسن تمر ودلة قهوة وإناء، تعوم في مائه ثلاثة فناجين مثلومة الحواف .

اقترب من الظل بحذر وثنى ركبتيه ثم مد يمينه علي الصحن وعيناه تدور ان في محجريهما دون توقف ، أن ذاك اقتربت أربعة ظلال من خلف جدار طيني قرب الفرضة ، كانت تظهر أعناقها في الأرض الرطبة وهي تتلوى وتهمس في جدل صامت ، وكبير السحرة يراقب بتك العينين الساطعتين ما يدور في ذلك الخفاء.

وحين انزاح أحد الظلال من مجموعته مقتربا ، عرف بأنه الساحر الذي رست طيه بيت ، وحين ظهر بملامحه ، أخفى كبير السحرة عينية ملتهيا بهز القطرة الأخيرة في فنجان القهوة ، ثم رفعها دفعة واحدة إلى حلقه وفي هذه اللحظة اصطدمت عيناه بيني الرجل القادم ، فتفرس في هيئته فبادله الأخر النظرة فارجا أساريره بخبث وهو يشرب .

حياه كبير السحرة واقفا ، ثم أجلسه بجانبه ، ودار بينهما حديث طويل ، قبل أن يقترح القادم ضيافته للعشاء في بيته .

قبل ذلك عرجا علي المسجد الكبير في نزوى الصلاة ، حينها تهاطل الغروب وبدأت جميع ظلال المدينة بالانسحاب .

تقدما بصمت في شارع تضيئه من خلال الأشجار الأنوار الساقطة من النجوم ، ثم انحرفا في زقاق فيق تطوقه جدران الطين والظلام من كل جوانبه ، وقفا أمام بوابة خشبية وبعد أن طرقها صاحب البيت خرجت امرأة عجوز يتقدمها ضوء سراج واهن ، رفعته في وجهيهما ثم أودعته يد صاحب البيت الذي تقدم يتبعه كبير السحرة بخطوات ثابتة ، أجلسه في غرفة صغيرة ووضع القنديل على مدخلها وخرج .

بقي كبير السحرة وشفتاه تتراقصان بتمتمات متسارعة وعيناه تتفحصان ما يضيئه مدخل الغرفة على أشيائها ، حيث ظهر النصف العلو، لسلاح قديم ، وصفحة من (جزء عم ) محشورة في جرف ، وكتب داكنة ، وخيط عنكبوت بدأ يرتعش ، وفي الأرض ظهر الجزء الأمامي لحصيرة السعف ، وفي دائرة القنديل بدأت تحوم بعض الحشرات الضعيفة إلى أن بددتها خطوات صاحب البيت الذي أفل وفي يده إناء من المرق وضعه بصمت ثم اختفى ، تزايدت تمتمات كبير السحرة ثم أغمض عينيه وفتحهما طر الإناء الذي ارتفع مثل ورما تسحبها خيوط خفية ليلتصق . منقلبا على السقف وصفحة المرق تتلألأ منه دون أن تسقط .

دخل صاحب الدار وفي يده صحن من الخبز، وحين سأل عن إناء المرق أشار اليه كبير السحرة بعينه الجاحظتين إلى السقف ، والتمتمات تهتاج من بين شفتيه دون صوت فباغتته هالة من الذعر، لكنه تراجع إلى شق متآكل في جدار الغرفة ، ومن كيس هناك أخرج حفنة من الرماد ونثرها في جسد الضيف الذي تحول في لحظات إلى (دبية ) (1) وحين تقدم صاحب البيت ليطأها رأى جسده يتحول إلى (قاشعة ) (2)

ويرتفع محمولا بين شفتي الحشرة إلى بهلا.

خرجت الأبية خفيفة من الباب ، وطارت مرتفعة فوق النخيل والكثبان ، مسافات طويلة وحبة القاشع في فمها.

وبعد أيام من صرخات المرأة العجوز، وبشر سحرة نزوى عن رفيقهم المفقود قرر وفد منهم الذهاب إلى بهلا لملاقاة كبير السحرة هناك ، وحين راوه عرفوا أنه ذلك الذي جاء متسترا في هيئة الضيف إلى نزوى ، فطلبوا منه إرجاع رفيقهم ، وحينما رماه إلى أرجلهم في هيئة حبة قاشع استنكروا مما رفين ، لكن ما لبثوا وأن استكانوا ووجوه أن يرجعه إلى هيئته الأولى، رفض كبير السحرة مستنكرا مضايقة الضيوف ومسخهم من قبل السحرة ، وعارضا شرطه الوحيد لإرجاع رفيقهم الممسوخ ، وهو أن يقطعوا تلك الفرضة التي يستظل بها الضحايا ، تردد سحرة نزوى ودار بينهم هرج كثير قبل أن يقطعوها.

 

نُشرت القصة في مجلة نزوى عدد أبريل 2000

1) مفرد دبي. صنف من الحثسرات اللاسعة .

2) مفرد قاشع . أصفر أصناف السمك المجفف ، تملح بجلاء أمام بيوت الصيادين ببريقها الفضي الساطع .