الجمعة، 2 نوفمبر 2018

غفلة الساحر لمحمود الرحبي




غفلة الساحر/ محمود الرحبي

 

حين قرر كبير سحرة بهلا أن يتوب ، ويهوي بضربة السيف على عنق أسطورة السحر في عمان، كان عليه أن يصل إلى حيلة ليقطع بها الفرضة الموجودة في سوق نزوى ، التي يستظل بها ضحايا السحرة هناك ، حيث تتم المزايدة عليهم قبل سحبهم تحت الستارة التي تخفي بهجة الضيافة والأكل، ليصنعوا بهم ما يشادون من حوارق .

ولأن لك الغرفة لا يمكن قطعها إلا بيد أصحابها، فإن مشقة البث عن حيلة

أخذت وقتا طويلا في رأسه .

ومثل هذه المعارك كانت معروفة بين الطرفين ، واتيان الخروقات في التعامل مع الضحية ،حتى أن سوقي المدينتين كانا مثار العجائب في مسخها وابادتها ، فحين يأتي سحرة نزوى بفعل خارق في ضحية ما، وتنتشر بين الناس ، فإن سحرة بهلا لابد وأن يظهروا بخارقة أكبر، وتستمر اللعبة وفي ميدان الضحية وحدها ، دون أن يطال السحرة شيء منها، وحين قرر كبير السحرة في بهلا التوبة ، والامتناع عن أكل لحوم الناس والعبث بأرواحهم كان ذك بمثابة فتح شرخ عميق ، وسابقة مهدت تصدع وذوبان صناعة السحر في عمان .

كانت فعلة كبير السحرة هي أن يتحول إلى ضحية ، ويذهب إلى تلك الفرضة ، وحين دخل المدينة لم يتعرف مليه أحد من نزوى، حيث بدي ملثما وفي لباس البدو وعيناه تشعان بالحذر، وحين اقترب من لك الفرضة ، وجد فلا واسعا تتوسطه حصيرة سعفية يتوسطها مسن تمر ودلة قهوة وإناء، تعوم في مائه ثلاثة فناجين مثلومة الحواف .

اقترب من الظل بحذر وثنى ركبتيه ثم مد يمينه علي الصحن وعيناه تدور ان في محجريهما دون توقف ، أن ذاك اقتربت أربعة ظلال من خلف جدار طيني قرب الفرضة ، كانت تظهر أعناقها في الأرض الرطبة وهي تتلوى وتهمس في جدل صامت ، وكبير السحرة يراقب بتك العينين الساطعتين ما يدور في ذلك الخفاء.

وحين انزاح أحد الظلال من مجموعته مقتربا ، عرف بأنه الساحر الذي رست طيه بيت ، وحين ظهر بملامحه ، أخفى كبير السحرة عينية ملتهيا بهز القطرة الأخيرة في فنجان القهوة ، ثم رفعها دفعة واحدة إلى حلقه وفي هذه اللحظة اصطدمت عيناه بيني الرجل القادم ، فتفرس في هيئته فبادله الأخر النظرة فارجا أساريره بخبث وهو يشرب .

حياه كبير السحرة واقفا ، ثم أجلسه بجانبه ، ودار بينهما حديث طويل ، قبل أن يقترح القادم ضيافته للعشاء في بيته .

قبل ذلك عرجا علي المسجد الكبير في نزوى الصلاة ، حينها تهاطل الغروب وبدأت جميع ظلال المدينة بالانسحاب .

تقدما بصمت في شارع تضيئه من خلال الأشجار الأنوار الساقطة من النجوم ، ثم انحرفا في زقاق فيق تطوقه جدران الطين والظلام من كل جوانبه ، وقفا أمام بوابة خشبية وبعد أن طرقها صاحب البيت خرجت امرأة عجوز يتقدمها ضوء سراج واهن ، رفعته في وجهيهما ثم أودعته يد صاحب البيت الذي تقدم يتبعه كبير السحرة بخطوات ثابتة ، أجلسه في غرفة صغيرة ووضع القنديل على مدخلها وخرج .

بقي كبير السحرة وشفتاه تتراقصان بتمتمات متسارعة وعيناه تتفحصان ما يضيئه مدخل الغرفة على أشيائها ، حيث ظهر النصف العلو، لسلاح قديم ، وصفحة من (جزء عم ) محشورة في جرف ، وكتب داكنة ، وخيط عنكبوت بدأ يرتعش ، وفي الأرض ظهر الجزء الأمامي لحصيرة السعف ، وفي دائرة القنديل بدأت تحوم بعض الحشرات الضعيفة إلى أن بددتها خطوات صاحب البيت الذي أفل وفي يده إناء من المرق وضعه بصمت ثم اختفى ، تزايدت تمتمات كبير السحرة ثم أغمض عينيه وفتحهما طر الإناء الذي ارتفع مثل ورما تسحبها خيوط خفية ليلتصق . منقلبا على السقف وصفحة المرق تتلألأ منه دون أن تسقط .

دخل صاحب الدار وفي يده صحن من الخبز، وحين سأل عن إناء المرق أشار اليه كبير السحرة بعينه الجاحظتين إلى السقف ، والتمتمات تهتاج من بين شفتيه دون صوت فباغتته هالة من الذعر، لكنه تراجع إلى شق متآكل في جدار الغرفة ، ومن كيس هناك أخرج حفنة من الرماد ونثرها في جسد الضيف الذي تحول في لحظات إلى (دبية ) (1) وحين تقدم صاحب البيت ليطأها رأى جسده يتحول إلى (قاشعة ) (2)

ويرتفع محمولا بين شفتي الحشرة إلى بهلا.

خرجت الأبية خفيفة من الباب ، وطارت مرتفعة فوق النخيل والكثبان ، مسافات طويلة وحبة القاشع في فمها.

وبعد أيام من صرخات المرأة العجوز، وبشر سحرة نزوى عن رفيقهم المفقود قرر وفد منهم الذهاب إلى بهلا لملاقاة كبير السحرة هناك ، وحين راوه عرفوا أنه ذلك الذي جاء متسترا في هيئة الضيف إلى نزوى ، فطلبوا منه إرجاع رفيقهم ، وحينما رماه إلى أرجلهم في هيئة حبة قاشع استنكروا مما رفين ، لكن ما لبثوا وأن استكانوا ووجوه أن يرجعه إلى هيئته الأولى، رفض كبير السحرة مستنكرا مضايقة الضيوف ومسخهم من قبل السحرة ، وعارضا شرطه الوحيد لإرجاع رفيقهم الممسوخ ، وهو أن يقطعوا تلك الفرضة التي يستظل بها الضحايا ، تردد سحرة نزوى ودار بينهم هرج كثير قبل أن يقطعوها.

 

نُشرت القصة في مجلة نزوى عدد أبريل 2000

1) مفرد دبي. صنف من الحثسرات اللاسعة .

2) مفرد قاشع . أصفر أصناف السمك المجفف ، تملح بجلاء أمام بيوت الصيادين ببريقها الفضي الساطع .

 

هناك تعليق واحد: