الأحد، 22 مارس 2015

عالم الأحذية



 

عندما أهداني الصديقُ ماهرُ الزدجالي مجموعتَهُ القصصية (وأخيرا نطق الحذاء) كتب لي إهداءً بسيطاً في بداية الكتاب: "لا تمشِ في الحياةِ بدون حذاء، وإذا قررتَ أن تشتري حذاء غاليا فاذهب وقت التنزيلات". هذه المقدمة دفعتني أن أبحثَ عن قصة الحذاء في المجموعة؛ لظني أنَّ ماهراً سَيُبَلورُ كعادته موضوعَ الحذاءِ بأسلوبٍ ساخرٍ لإيصالِ فكرتِهِ للقارئ. نعم كانت السخريةُ حاضرةً في قصةِ "فردتا حذاء" ولكن هذه السخرية مغلفةٌ بالهم الإنساني، بالبؤس، بالشقاء.

 

يستنطق ماهرُ الحذاءَ في لغة ساخرةٍ، تحمل بُعْداً إنسانياً؛ شخصيةُ حذاءِ المتسولِ رسمت صورةً للطبقيةِ التي تعيشُها المجتمعاتُ، وأنَّ الأحذيةَ كالأبناءِ تماماً، فمنهم من يتمرّغُ في وحلِ الأزقّةِ ويتسكعُ في الشوارعِ بحثاً عن لقمة العيش التي فقد معها ملامحَ طفولتِهِ مبكرا، ومنهم من يتمرَّغُ في النعيم، في مكانٍ فارهٍ يخدمه العديد من الخدم، ومنهم المدلل المنعم كـ"نؤومِ الضحى" في قصيدة امرئ القيس. كل تلك صورٌ رسمها المشهدُ في قصة بسيطة، أبطالها خارج النطاق المعقول لهذه الحياة.

إنه الواقع الذي لم نكتشف عيوبَهُ برؤيتنا القاصرة، بل واقعٌ فضحته اللغة/ الصورة/ الأدب، هكذا نطق الحذاء عندما صمتَ البشرُ، وهكذا تنكسرُ الإنسانية عندما تموتُ الضمائرُ، وبين البؤسِ والنعيمِ شعرةٌ إذا انقطعت اختلّت موازين الأفكار والميول. إنه الواقع الذي أوجد هذه الأحذية بمختلف ميولها وانتماءاتها، الواقع من أوجد حذاءَ "منتظر الزيدي" في وجه رئيس الدولة الأولى في العالم حاليا، واقعٌ مليءٌ بالانكسارِ، يبحث عن الخروج من وطأة التبعية إلى الحرية والعدل، الواقع من أوجد الحذاء الفضي لكريستيانو رونالدو الذي سيخوض به مباراة الكلاسيكو هذا الأسبوع كما تناقلته وسائل الإعلام العالمية والذي صُنِعَ خاصة لهذه الموقعة، واقعٌ مليءٌ بالرفاهية المثخنة بحب الظهور والشهرة، الواقع من دفع كاتباً كماهر الزدجالي أن ينظر للإنسانية/ الطبقية بعينِ المكتشف فأوجد نصاً قصيرا كقصر حياة ذلك البائس المتسول صاحب الحذاء الذي رحل في صمت..

 

همسة:

المعتمد بن عباد في سجنه بأغمات، ينظر لأقدام بناته ليصف المشهد المرير... تأملوه:

يطأنَ في الطينِ، (والأقدامُ حافيةٌ)

                                      كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا

 

الثلاثاء، 17 مارس 2015

أدونيس والمنفى...



لو طُلِبَ من أدونيس أن يكتبَ شهادةً أخرى عن المنفى على غرار شهادته التي كتبها لندوة (الأدب والمنفى) التي دعا إليها المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث في الدوحة 2007م، لو طُلِبَ منه ذلك، ماذا عساهُ أن يكتبَ هذه المرة؟!

هل سيكتبُ عن المنفى الذي عاشه والذي يرى من خلاله منفى لا تحدُّه الحدودُ الجغرافية؟ ولا تؤثر فيه تغيّر الأمكنة؟ هل سيروي لنا صُوَراً من منفاهُ الأول؟ أم سيكتب لنا قصيدةً عن المنفى بوصفه منفى داخلياً، يحيلُ إلى تقاطعاتٍ ذاتيةٍ عملتْ على تشكيلِ فكرٍ مغايرٍ لما كانت عليه الفكرةُ الأولى؟

تساؤلات تتداخلُ لديَّ وأنا أقرأ موضوع أدونيس "مكانٌ آخرُ في ما وراء الوطن والمنفى" من كتابه (رأس اللغة جسد الصحراء) تناول فيه الحديث عن المنفى، فأكّد خلاله في أكثر من موضع أنَّ منفى أدونيس هو المنفى الداخلي المتمثل في منفاه الأول الوطن الذي وُلِدَ فيه، والثقافة التي رُبّيَ عليها. (ص21) هذا المنفى ظل حاضراً معه، يُلازمه، فكان لا بد من تخطّي هذه الحال، والبحث عن تجربة تسمح بالعبور إلى خارج هذا النفي الذي يعيشه، إلا أنَّ نفيه الداخلي ظل مسيطراً لم يخدش جِدارَهُ تغييرُ الأمكنة ولا غيرها.

يتناول أدونيس في موضوعه صُوَرَاً من نفيه الداخلي والتي منها: منفاه الأصلي في الطائفة، الذي دفع به حد التساؤل عن انتمائه الطائفي والتخلص من هذا الانتماء. إلا أنه وبقراءة المشهد في سنواته الأخيرة يظهر أن تساؤلات أدونيس لم تكن تتحرك في دوائر النفي والتحرر منها بقدر ما هي أسئلة كونية يتطلبها رصيد الفكر العربي؛ فقد ظلَّ منفى أدونيس داخل الوطن/ الطائفة يحاصر قلم كتابتهِ، ويعيد عليه ابتناء أولوياتٍ داخلية تجاه هذا المنفى. فعند قراءة الخطاب الثقافي لدى أدونيس وبالتحديد عن منفاه الوطن نجد مدى تأثير الوطن/ الطائفة/المنفى لديه، فنتذكرُ حين اندلعت الثورة السورية صرَّحَ قائلا: "لن أشارك في ثورةٍ تخرج من المساجد". وبعدها بفترة بعث برسالته إلى الرئيس بشار الأسد طالباً منه تطبيق الديمقراطية والابتعاد عن الحزبية والطائفية.

هذا الخطاب يحمل داخله لغةً دقيقةً لطول المسافة التي كانت بين أدونيس الكاتب، والوطن المنفى، والطائفة كثقافةٍ، لغةً استثمرها طوال سنواتٍ يعيد خلالها تأطير مشروعه الفكري والثقافي والشعري. لغةً استمدَّتْ رؤيتها من مشروعه التحديثي إضافة إلى التراث كمقومٍ راسخ في الثقافة العربية.

أليس المنفى بعد ذلك، رؤية ومشروعاً اتّكأ عليه أدونيس في بناء خطابه الثقافي، ولكَ أن تقرأ ما كتبه شعراً ونثراً، لتجد ملامحَ المنفى بارزةً وبصورة تدعو للتأمل، لمَ لا وهو الذي يكتب عن منفاه منذ كانت طفولته في قريته، وكأنَّ المنفى الرفيق الأزلي طيلة السنوات الطويلة..

إذا كانَ أدونيس في شهادة الأدب والمنفى عرضَ صورةً لمنفاه "الفردي"، بذكره للمنفى داخل الوطن/ داخل الطائفة/ وداخل الاسم كذلك، فإنَّ هناك صورة أخرى خلاف "المنفى الفردي" وهي صورة المنفى "الجمعي" داخل الوطن، والثقافة، والمكان، والطائفة، والحرية، صورة النفي داخل/ خارج الحدود لأبناء وطنه، والذين هُجِّروا بعيداً عن نطاق الديمقراطية المزعومة. فهل سنقرأ شهادةً أخرى لأدونيس مليئةً بالمنافي داخل وطنه، تضجُّ بلغاتِ الكونِ المثخنة غربةً وانصهاراً مع العالم؟!

 

همسة:

أكادُ أجزمُ أن كلَّ مبدعٍ يعيش منفى يختصُّ به، يمثِّلُهُ، يكتُبُه، يسكُنُهُ وإن أقام بيننا طويلاً، يقول درويش:

أيُّ منفى تريدين؟

هل تذهبينَ معي؟ أم تسيرينَ وحدَكِ

في اسمكِ منفىً يكلِّلُ منفىً

بلألائه؟

 

 

الثلاثاء، 10 مارس 2015

السكين


عندما انتهت شهرزاد من سرد حكايتها، فتش شهريار عن خنجره المسموم، الذي اعتاد به قتل جواريه.. فتش في كل مكان عنه، في الدولاب، وتحت السرير، وفي الشرفة، وفي دورة المياه، لكنه لم يفتش في ظهره النازف دما..