الخميس، 7 يناير 2016

مع الجاحظ في المقهى










المكان مقهى "الكوستا" الذي أتردد عليه بين الحين والآخر، بانتظار صديقٍ يقطعُ مسافاتٍ طويلة لألتقي به عادةً عندما أُنهي قراءةَ كتابٍ له. تأخذني التفاتة للطاولة المجاورة إلى ثلاثة شبابٍ يمارسون الضحك علانية ويطلقونه حرا في المكان، بجوارهما فتاتان تلعقان الآيس كريم في صمت، بينما طاولة في الجانب الآخر يلفها السكون لانشغال الرجلين بهاتفيهما النقالين.

يُقبلُ الجاحظ بعمامته و"بشته" القديم. لم يأبه أبو عثمان بالأنظار التي ظلّت تترصد له ولملابسه، وعاجلني بعد أن أمسك كتاب "البيان والتبيين" الذي أحضَرْتُهُ معي قائلا:

- طباعةُ دار النشر هذه رديئةٌ جداً. توجدُ أخطاءٌ كثيرة بالكتاب.

لم يبدُ الجاحظ غاضباً من دار النشر وطباعتها، فقد غطّى سروره بزيادة قارئ في رصيد مكتبته التراثية على غضبه. وأنت تجلسُ مع الجاحظ تشربُ شاياً بالنعناع لا تنس أن تحاوره عن وقته الثمين الذي قضاه بين المعرفة والعلم، لا تنس أن تسأله عن مساحة الذاكرة التي كان يحملها في رأسه، إنه مكتبة ضخمة تمشي على رجلين!!

في كتابه البيان والتبيين يتضح مدى موسوعية هذا المؤلف حين يطوف بك من علم لآخر ومن معرفة لأخرى، تعيش معه موضوعا، ثم لا تجد نفسك إلا في حديقة موضوع آخر، انتقال لا تُحِسُ معه بالملل أو الشرود الذهني، وما إن تنهي الفصل حتى تُكملَ الفصل الذي يليه، ذات الأسلوب انتهجه الجاحظ في كتبه الأخرى على الأقل التي قرأتُها أنا كرسالة مفاخرة الجواري والغلمان، وكتاب المحاسن والأضداد الذب به شك حول نسبته له.

جاء البيان والتبيين جامعاً كل فن. يقول مثلا: (كانت العادة في كتب الحيوان أن أجعلَ في كل مصحف من مصاحفها عشرَ ورقات من مقطعات الأعراب، ونوادر الأشعار، لما ذكرتَ عجبَكَ بذلك، فأحببتُ أن يكون حظُ هذا الكتاب في ذلك أوفرَ إن شاء الله). بهذا الأسلوب يعرف الجاحظ كيف يصل لعقل قارئه، يعرف كيف يدخل وينظّم أفكار كتابه في فكر قارئه رغم اتساع المدة الزمنية بين الاثنين.

وأنتَ في المقهى مع الجاحظ ينبغي أن يكون النقاش في مستوى عقلية الشخصية التي أمامك، فحتى تحاوره وتسأله وتدخل معه في حوارٍ ولو قصير عليك أن تحصّن نفسك من لعنة العشوائية والتخبط، فعقلية كهذه عاشت زمنها وتقدَّمت لزمنٍ قادم تنتظر مَنْ يعيد قراءة أسئلة الثقافة العربية عليها عقلية كهذه لن تقنع إلا بوجبة دسمةٍ على مائدة الاطلاع الثري.

نظر أبو عثمان لساعته قبل أن ينصرف قاطعاً وعده بلقاء قريب تاركاً توقيعه على الكتاب حاملاً أسئلة الثقافة العربية المختبئة في ذاكرة واقعنا المعاصر.