الثلاثاء، 6 أبريل 2021

صراع الأمكنة في روايات بدرية الشحية

 

صراع الأمكنة في روايات بدرية الشحية

خالد علي المعمري

جريدة عمان: الثلاثاء 6 أبريل 2021م

 

تعمل بدرية الشحية منذ روايتها الأولى الطواف حيث الجمر إلى رواية كارما الذئب على إيجاد علاقة بين الشخصية والمكان، رغم أنّ الاثنين يرتبطان ارتباطاً وثيقا ببعضهما في الكتابة السردية، ويتفاعلان معاً في بناء الأحداث، وعليه فإنّها قد منحت شخصيات رواياتها حرية اختراق الأمكنة، وحق التفاعل والولوج إلى عالمها المتخيّل مُشكِّلةً بؤرة صراعٍ وتصادم بينها. وتتنامى طبائع الشخصيات في روايات بدرية الشحية -سواء الرئيسة أم الثانوية- بناء على المواقف المكانية، وتبدّلاتها من فضاء لآخر.

ولأنّ الكتابة الروائية اهتمّت بالمكان سواءً في الكتابات التقليدية الناظرة إليه كونه بُعداً جغرافياً واقعياً يمثّل خلفيةً تعكس المشهد البصري في الأحداث، أم من كونه عملية منظّمة تنهض بالكتابة، ولغة تستمد حيويتها من عناصر السرد الأخرى في الرواية الحديثة، فإنّ الكتابة الروائية ما تزال ترى في المكان عنصراً له معطياته القيّمة في الكشف عن بواطن الشخصيات، وفضاء مرتبطاً بالذات والآخر، تبوح ذاكرته بمضمراتٍ اندسّت عميقا في الخطاب، وتُحيل على مرجعية خارجية يسعى إليها النص.

لقد قدّمت بدرية الشحي في رواياتها (الطواف حيث الجمر، وفيزياء1، وكارما الذئب)  صورة عن علاقة الشخصية بالمكان الذي تقطنه، وعن الصراع الدائر بين الأمكنة وارتباطها بشخصيات أعمالها الروائية، نلمح جانباً من هذا الصراع في حضور تضادات المكان في الثقافة، واللغة، والحياة الاجتماعية والعلمية، والأيديولوجيا التي اختبأت في فكر الإنسان. ويتمثّل الصراع المكاني بين الشرق والشرق/ الساحل الأفريقي في الطواف حيث الجمر، وبين الشرق والغرب/ روسيا في فيزياء1، وبين الشرق والغرب/ أمريكا وبريطانيا في كارما الذئب، إذ تُحيلُ كل رواية على اختلافاتها المكانية المرتبطة بالشخصيات والحياة التي تعيشها، إننا أمام شخصيات تتبدل أفكارها ومصائرها بتبدّل المكان الذي تقع فيه الأحداث، كما إن المكان قد صبغ هذه الشخصيات بصفات أهله ومعتقداتهم، ورَسَمَ في مخيلتها استلاباُ إلى الواقع الذي تحيا فيه، لنا أن نمعن النظر في رواية الطواف حيث الجمر، كيف أكسب المكانُ شخصياته صفات تتناسب ووجودها في المكان ذاته، فالجبل بقسوته وتقاليده وأفكار أناسه قسّم الشخصيات باعتبار مرجعياته إلى شخصيات طبقية يمثّلها العم والأب، ووشخصيات ذكورية مهيمنة متمثلة في إخوة زهرة، وشخصيات خاضعة مستكينة للعادات والتقاليد متمثلة في زهرة والفتيات في الجبل. والبحر أيضا عكس لنا صورة الشخصيات المرتبطة به بدءاً من النوخذة سلطان إلى صالح زوج زهرة، إلى بقية البحارة، إذ يتدخل الراوي لكشف كل شخصية من الشخصيات لحظة سرد الأحداث، كذلك الساحل الأفريقي عَكَسَ أيضا صورة الشخصيات في الرواية، فشخصية خميس/ كتمبوا الثائر والمناضل تختلف عن شخصية كوزي الفتى القانع بواقعه رغم مرارة فقره وحاجته.

هذا أنموذج واحد على تقاطعات الشخصية مع المكان في روايات بدرية الشحي، لا سيما إذا علمنا أنّ مثل هذه التقاطعات تتكرر في روايتيها الأخريتين بصيغٍ تقصدها الكاتبة من أجل تحقيق الصورة السردية التي عليها الشخصيات الرئيسة على الأقل، فارتباط مصائر كريمة وعثمان في فيزياء1 تتبدّل بتبدّل المكان، كما إن الصراع الثقافي واضح في تقاطعات المكان في الرواية، والأمر نفسه في كارما الذئب كما سنرى.

 إن المتأمل في هذه التقاطعات سيدرك حتما أن بدرية الشحي قد عملت على خلقِ صراع ضدي بين الأمكنة داخل سردها، وتحيل على أفكار وأنساق متضادة في الحياة، تقوم من خلالها باستكمال حاجتها من السرد وبناء الأحداث. إن الصراع بين الساحل الأفريقي وبين عمان تنقله زهرة من زاوية الاختلاف في العادات والتقاليد وحرية الفتاة، فما عاشته زهرة من تهميش في الجبل أحالها على غربة داخلية، وتوترات نفسية ضد سلطة الأهل والمجتمع جعلها تثور على كل مرجعيات السلطة الاجتماعية رافضة زواجها بابن عمها الذي يصغرها بسنوات، وجعلها تقتفي خطوات ابن عمها وحبيبها سالم، باحثة عن بيئة أخرى تختلف عن الجبل وذاكرته، إلا إن المكان الآخر قد أظهر صراعاً مع الفتاة القادمة عبر البحر والتي تحاول إيجاد وطن بديل لها، وثقافة وفكر آخر.

إن المجتمع الآخر بثقافته وووجوده التاريخي يرفض الوجود الجديد مما يعمل على تشكيل أحداث جديدة تقيمها الشخصيات في المكان ذاته، ففي رحلتها تنتقل زهرة من حدث لآخر بناء على تشكلات المكان وصراعاته، ومعه ترضخ زهرة لسلطة المكان الجديد، وتقبل الزواج بمن كانت تنظر له بطبقية واستعلاء.

إنّ بدرية  الشحي تضع المكان في موضع النقاش، وتحيل معه شخصياتها على أبعاد نفسية وفكرية وثقافية، إذ تتلبس شخصياتها بلباس المكان الذي تقطنه، فزهرة الضعيفة المسكينة في الجبل تختلف عن زهرة المسيطرة والمتملكة في الساحل الأفريقي. وعليه يحيلنا هذا الصراع على وجود مكانين مختلفين جغرافيا، يتصارعان ثقافيا وفكريا واجتماعيا تجسّدهما الشخصيات التي تتقاطع مع عناصر سردية أخرى على إكمال الأحداث. ففي رواية فيزياء1 يتشكل الصراع المكاني جلياً، وينتقل من عمان إلى روسيا. إنّ المكان في عمان يقيم حدوده في وجه كريمة وعثمان، إذ يرحل عثمان، المؤمن بحسابات الطاقة، بهدف الدراسة ويتزوج من زميلته الروسية أولغا، وينجب طفلا لم يمانع أن تقوم الكنيسة بتعميده ونسبته لدين أمه الجديد. ويتشكل الصراع من جهة كريمة بالسفر إلى روسيا وملاحقتها لعثمان وإقامة علاقة معه. هذا الصراع في أصله قائم على رؤيتين نابعتين من ثقافتين مختلفتين، ثقافة مجتمع قائمة على أنساق تقليدية، وعادات تتحكم في العلاقات المختلفة بين الأفراد، والسلطة الاجتماعية المهيمنة، وثقافة أخرى تتبنى الأفراد وتعمل على تشكيل ميولهم وانتماءاتهم وتطوريها مع ما يواكب حياتهم من انفتاح.

إنّ الصراع هنا مستمدٌ من ثقافتين مختلفتين، كل ثقافة لها مرجعياتها المختلفة التي تحاول معها الرواية أن تضفي على شخصياتها سلوكيات إما هي رافضة للفعل الجمعي أو متقبلة له. لقد منح المكان عثمان وكريمة حياة أخرى تقوم على الحرية الشخصية، ورفض القيود المجتمعية، كما عمل على بناء شخصياتهما وفق التصور المكاني الجديد والمناسب لأدوارهما الجديدة.

وتعود بدرية الشحي من جديد إلى الجبل في روايتها كارما الذئب من خلال استدعاءات الذاكرة على لسان حميدة وسلاّم، وكأن الجبل كما يبدو مكان الذاكرة، والاعتراف، والبوح. إنّ الجبل في الرواية ليس عنصراً سردياً فقط، إنه مكان الوعي وانعتاق الذاكرة وبوحها. تعود الرواية بالقارئ إلى المناطق الوعرة في ذاكرة حميدة وزوجها، وإلى شظف العيش، والعمل في مزارع الجبل، وإلى نظرة الإنسان إلى الآخر، والتكوين الفكري والفلسفي في شخصية إنسان تلك المناطق.

لقد استطاعت بدرية الشحي تكوين شخصياتها بناء على الأمكنة التي تجري فيها الأحداث كما ذكرنا؛ لقد صوّرت عالم حميدة في الجبل، المتمثل في الضعف والفقر، وهي الصورة التي ظلت تتأرجح في ذاكرة سلّام عنها، لكن صورة المرأة عند بدرية الشحي تتبدل تبعا لمجريات الأحداث، وتبعا لتعدد الأمكنة، وكما عملت على تبديل صورة زهرة في الطواف حيث الجمر من التهميش إلى السيطرة، وتبديل صورة كريمة في فيزياء1 من الهيمنة الذكورية إلى فضاء الحرية، قامت بتبديل صورة حميدة في الجبل من الضعف والانكسار إلى القوة المتمثلة في المال في أحداث حياتها الجديدة ورحلتها لأمريكا وبريطانيا بإعادة بناء موقفها التعليمي والثقافي والاجتماعي، فالفتاة الجبلية الضعيفة والمنكسرة تتطوّر أفكارها وآراؤها ونظرتها للحياة بعيداً عن الجبل، رغم عودتها بالذاكرة إليه أحيانا. إنّ الصراع القائم على تقنيات المكان هو في حقيقته صراع الشخصيات المتمثل في بيئات جغرافية متضادة، والمتشكّل في سياقه السردي في الأحداث، فصراع المكان العماني مع الشرق الأفريقي هو صراع دائر بين زهرة وخميس/ كتمبوا، وصراع المكان العماني مع المكان الروسي هو صراع عثمان في محاولة إثبات قدراته العلمية في بلد يقدّر العلم، وكريمة الباحثة عن فضاءات الحرية، وصراع المكان العماني مع الغرب الأوربي والأمريكي هو صراع إثبات الوجود لحميدة أمام سلّام في مجتمعات مختلفة ثقافيا واجتماعيا وماديا، وهو صراع في حقيقته مرتبط بالمرأة في علاقتها بالآخر.

إنّ صورة المرأة عند بدرية الشحي تتشكّل وفق صراع أيديولوجي مع الآخر، وعليه فإنّ هذا الصراع يتّسع ليشمل المكان الذي يعمل على تشكيل الأحداث وفق رؤيته للمرجع الذي تتناوله في العمل الروائي. إنّ المكان عنصر رئيس ضمن العناصر التي عملت بدرية الشحي على توظيفها للتعبير عن فكرتها، وتكوين صورة شخصياتها، وهو العامل الأهم في ذلك لبناء مستويات الشخصية الرئيسة، وتنامي أفكارها، وتفجير نفسياتها في المواقف التي تعنى بالشخصية/ المرأة، وعليه فإن كتابة المكان عند بدرية الشحي هي مساحةٌ لانفتاحٍ على المسكوت عنه في قضايا متعلقة بالمجتمع والمرأة، وذاكرة مشرعة تحيل على أنساق مضمرة في الخطاب الروائي.

  

 


الشعر بين فلسفة المعري ومخيلة سماء عيسى

 

الشعر بين فلسفة المعرّي ومخيّلة سماء عيسى

خالد علي المعمري

 

 

جريدة عمان: الثلاثاء 23/3/2021م

في اليوم العالمي للشعر استحضرتُ الشاعرين أبا العلاء المعرّي وسماء عيسى. إلى هنا يبدو الأمرُ طبيعياً أن تستحضر شاعراً في يوم كهذا، وتقرأ له قصائد شعرية، وتعجب بها، وتشاركها مع الآخرين في مواقع التواصل الاجتماعي، لكن هذا الحضور صار يُحيلني على تقاطعات شعرية، ودلالات متنوعة بين الشاعرين، وقبل ذلك كنتُ كلما قرأتُ نَصّاً لسماء عيسى تبادرتْ إلى ذهني صورة أبي العلاء المعري، وكأنّ الذاكرة في تخيّلاتها تصنع تقاطعا بين الشاعرين في المنجز الشعري، أو كأنّ سماء عيسى نسخة شعرية حديثة من أبي العلاء المعري!!

ورغم الفارق الزمني البعيد، والملامح والسمات الشعرية لكل عصر، فإنّ الشاعرين استطاعا أن يحفرا عميقاً في جدار الشعر، وأن يعملا على إنتاج الدلالات الشعرية في مسارهما الكتابي، وإحالة النص الشعري على البواطن الداخلية للذات، والتخيلات العميقة، فكان للمعرّي أن خاطب العقلَ في شعره وعمل على تمجيده وإعلائه، والردّ من خلال زاوية رؤيته إلى مفهومه الشامل على كل المشككين والمخالفين لهذا الرأي، وأما سماء عيسى فإنّ النص الشعري لديه يغوص في العمق التخيّلي للفلسفة الشعرية التي يقصدها، ومعها يعمل على توليد الدلالات وابتكار الصور والاشتغال على لغة تتفاعل داخل النص.

في إطار الحديث عن فلسفة المعرّي الشعرية، يتضح لنا المسار الفلسفي لدى المعري: الشاعر، والكاتب، والفيلسوف، واللغوي، الذي مزج بين الحكمة الشعرية وبين الفلسفة والرؤية المرتبطة بالكون والحياة. إنّ المعري في فلسفته الشعرية يعمل على تحكيم العقل، الذي هو أساس رؤيته للنفس البشرية المنفتحة على هذا الكون، ثم إنّ حضور العقل في غير موضع من شعره يفسّر عمق هذه الفلسفة الرافضة للاتجاهات التقليدية في الحياة، والثقافة، والأدب، فلا "إمام سوى العقل" عند المعرّي، ومع العقل عَرَفَ المعري أنّ الإنسان في ضلالٍ في هذه الدنيا، والعقل أيضا مكمن المشورة التي ينبغي على الإنسان أن يلجأ إليها، فظل يدعو إلى ذلك قائلا:

فشَاورِ العقلَ واتركْ غيرَهُ هَدَراً ... فالعقلُ خيرُ مُشيرٍ ضّمَّهُ النادي

لقد شهدت الحقبة الزمنية التي كان يعيشها المعري جدالا واسعا على النطاق الديني والفلسفي والكلامي، واتُّهِمَ المعرّي معها بتهمٍ كانت كفيلة بالثورة على نصوصه، وكتبه، وعلى شخصه أيضا، وهنا تتضح أولوية الاهتمام بالعقل عنده والعودة إلى فلسفته الشعرية، والدعوة إلى تمكينه في الفكر والحياة، وعدم تقبّل ما جاءت به الرواية النظرية، فللعقل سلطانه عند المعري لم يبلغه أي سلطان.  

ولعلّ الناظر في الفلسفة العقلية يجد أنها امتدّت سنوات طويلة في الثقافة والفكر، أقلها منذ زمن المعرّي إلى وقتنا الحاضر، وحظيت باهتمام كبير خاصة للمهتمين بالتراثين الأدبي والفكري، ولعل اهتمام محمود محمد شاكر (1909-1997) على سبيل المثال في كتابه (أباطيل وأسمار)، الذي دافع فيه عن الثقافة العربية والتراث الفكري يجسّد الاهتمام الكبير بفلسفة العقل عند المعري في الشعر، إذ افتتح كتابه بدءاً من صفحة الغلاف والصفحة التي تليها والصفحة التي تلي المقدمة ببيتي المعري الشهيرين:

هل صّحَّ قولٌ من الحاكي فتقبلَهُ ... أم كُلُّ ذاكَ أباطيلٌ وأسمارُ

أما العقولُ فآلتْ أنّه كذبٌ ... والعقلُ غرسٌ له بالصدقِ إثمارُ

وكأنه يجعل اهتمامه بالعقل عنصراً رئيسا في الرد على أقلامٍ حَمَّلت الثقافة العربية ما لا يُحتمل، وأنْ لا سبيل للوصول إلى متاهات الكلام والحقيقة إلا بالعقل، أو كأنه يبني جسراً ممتداً إلى فكر أبي العلاء، مستمداً عنوان كتابه من بيته الشعري السابق.

إنّ فلسفة المعرّي في الشعر قائمة على إثارة السؤال لدى المتلقى، والتشكيك في ما لا يقبله العقل، فالسؤال أول الطريق إلى المعرفة، وهو ما عدّه أدونيس في قراءته لفكر المعري بأنّه تساؤل يحيلُ على "تمرّد ورفض وشك وقلق" (مقدمة للشعر العربي: ص31)، لذا فإن الاحتكام إلى العقل لدى المعري يقدّم صورة واضحة عن المنهج التفكيري والصراع الواقعي في مواجهة الحياة، ومعها فإن المعري واجه السلطة الدينية في شعره، وردّ كثيراً من آرائها وأفكارها، كما واجه السلطة المجتمعية وأظهر تناقضاتها وسطوتها على الفكر والحياة العامة. لقد ارتبط الاهتمام بالعقل عند المعري بالصراع والحكمة والفلسفة والسؤال والموت وهي استنتاجات ناقشها منطق التفكير عند شاعر ربط بين الفكر والعُزلة في تكوين رؤيته الفلسفية والشعرية.

يحيلنا الحديث السابق عن الشعر ودلالاته عند المعري على حضور تلك الدلالات والتساؤلات وارتباطها بالموت والحب عند سماء عيسى في تناوله للقصيدة في تركيبها التخيّلي، وعمليات إنتاج الدلالة والصورة. إن تجربة سماء عيسى الشعرية لا يمكن قراءتها في مقال سريع كهذا، إذ إننا أمام نصوص شعرية تستمد ثقافتها ومرجعيتها وتركيبتها الدلالية من ثقافة الشاعر، وحضور اللغة، وانزياح الصورة، وحركة الإيقاع. إنّ القصيدة عند سماء عيسى ارتباط واسع بالمخيلة الشعرية، والطاقة الشعورية، فهو ييبتكر من اللغة غموض الموت، ودفقة الشعور والرومانسية، وعلاقات التأمل في الحياة والواقع، ثم يفتح باب السؤال والتأمل على مصراعيه، لتنكشف الصورة على تركيب دقيق لحظة استدعائها في النص، فهل يمكننا القول إنها صورٌ ودلالات تعبيرية حديثة لتقاطعات الفكر مع رؤية أبي العلاء المعري للواقع؟

إنّ الكتابة الشعرية عند سماء عيسى تأتي محمّلة بالطاقة الشعورية النابعة من الذات، والمرتبطة بالرؤية الغامضة وبأسرار الجسد والروح، وإلى هذا يُشير:

عادةً لا يكون المرء قادراً: الكتابة إلى من يُحبّ

لأنه يكون قد كتب ذلك الحُبّ بدم قلبه

وأودع به أسرار روحه وجسده الفاني.      

إنّ الجسد والروح في علاقتهما الضدية مشروعان منفتحان على أسئلة الوجود والكون، وهي علاقة سابقة عبّر عنها المعري أيضا حين قال:

جسدي خرقةٌ تُخاطُ إلى الأرضِ ... فيا خائطَ العوالمِ خطني

ألا تُحيل هذه اللغة، والرؤية الداخلية ولو شيئا قليلاً على تقاطعات المعرّي مع الحياة والموت وسؤال المصير وفلسفته؟

تتقاطع دلالات الموت في نصوص سماء عيسى، والذي يستنزف معها كثيرا من طاقته الشعرية المتخيّلة لتكوين صورته الشعرية داخل النص، فيقدّم لنا صورة للموت الذي يفاجئ من نحب:

هذا الموتُ الغامضُ

كأسرار الأرض

هذا الموتُ الغزيرُ كدموعنا.

وتشرعُ مخيلته الشعرية في الاتساع، فتتعالق دلالات الموت مع اللغة الرومانسية، ويتصاعد الخيال في الصناعة الشعرية، فيربط سماء عيسى بين الحب والموت والغياب والبُعد والفراق، وتأتي دلالات الربط مُشْبَعَةً بالحنين تارةً، وبالتأمل تارة أخرى:

هل استيقظ الحُبُّ

ذات ربيع

فأبصرتِ في الليلِ

نجم غيابٍ بعيد؟

ويقول:

شجرة الحُبِّ الصغيرة البيضاء

حنتْ أغصانها

كنهرِ جفافٍ عجوز

رحل عشاقها إلى الموت

وعادت يبابا.

إن الدلالات التي تمنحها اللغة، والمخيلة الشعرية تربط بين الموت في هيبته، والحب في طوفانه، إذْ لا ينفكّ أحدهما عن الآخر، ولا يطمس أحدهما ذاكرة الآخر، حتى الطبيعة في ذاكرة الشاعر تأتي محمّلة بدلالات ممتزجة بين الاثنين، وهو ملمح رومانسي لا شك:

العصافير في غنائها

لم تعد سوى رحيل غامض

الشجر رمى ثمره في الأرض

المياه أكثر حنيناً إلى الموت

في انحدارها إلى المجهول.

إن الدلالات السابقة تبعث على تساؤلات عدة يحيل عليها النص الشعري، إنها التساؤلات ذاتها التي انطلقت من فلسفة المعري، فالمخيلة الشعرية، واللغة المستخدمة تدفع المتلقي إلى ضرورة إعمال الفكر، والدهشة عند تلقي السؤال، وإننا نستحضر مثل هذه التساؤلات المتخيَّلة حين نقرأ الموت والرحيل في هذه الصورة:

من يفتح البابَ

لأمي

عندما تعود؟

الملائكةُ

يا حبيبتي

لكنها رحلتْ

غابتْ ولن تعود ثانية.

 

هو هكذا الشعر في لحظاتِ تكوّنه، فلسفةٌ نابعةٌ من الرؤية العميقة للذات، وصورةٌ يبتكرها الخيال، إنها أشبه بلعبة نُدمنُ لعبها، رغم تزاحم أوقاتنا وانشغالاتنا المتكررة. الشعر فلسفة وتعبير وتصوّر وحياة ورحلة وسؤال عند المعري وسماء عيسى، وهو روحٌ وخلودٌ وذاكرة لا ننفصل عنها، وكما عبّر الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث: "إنّ شعباً بلا شعر، هو شعبٌ بلا روح"، فإننا والشعر هكذا في علاقتنا المستمرة.