الثلاثاء، 6 أبريل 2021

الشعر بين فلسفة المعري ومخيلة سماء عيسى

 

الشعر بين فلسفة المعرّي ومخيّلة سماء عيسى

خالد علي المعمري

 

 

جريدة عمان: الثلاثاء 23/3/2021م

في اليوم العالمي للشعر استحضرتُ الشاعرين أبا العلاء المعرّي وسماء عيسى. إلى هنا يبدو الأمرُ طبيعياً أن تستحضر شاعراً في يوم كهذا، وتقرأ له قصائد شعرية، وتعجب بها، وتشاركها مع الآخرين في مواقع التواصل الاجتماعي، لكن هذا الحضور صار يُحيلني على تقاطعات شعرية، ودلالات متنوعة بين الشاعرين، وقبل ذلك كنتُ كلما قرأتُ نَصّاً لسماء عيسى تبادرتْ إلى ذهني صورة أبي العلاء المعري، وكأنّ الذاكرة في تخيّلاتها تصنع تقاطعا بين الشاعرين في المنجز الشعري، أو كأنّ سماء عيسى نسخة شعرية حديثة من أبي العلاء المعري!!

ورغم الفارق الزمني البعيد، والملامح والسمات الشعرية لكل عصر، فإنّ الشاعرين استطاعا أن يحفرا عميقاً في جدار الشعر، وأن يعملا على إنتاج الدلالات الشعرية في مسارهما الكتابي، وإحالة النص الشعري على البواطن الداخلية للذات، والتخيلات العميقة، فكان للمعرّي أن خاطب العقلَ في شعره وعمل على تمجيده وإعلائه، والردّ من خلال زاوية رؤيته إلى مفهومه الشامل على كل المشككين والمخالفين لهذا الرأي، وأما سماء عيسى فإنّ النص الشعري لديه يغوص في العمق التخيّلي للفلسفة الشعرية التي يقصدها، ومعها يعمل على توليد الدلالات وابتكار الصور والاشتغال على لغة تتفاعل داخل النص.

في إطار الحديث عن فلسفة المعرّي الشعرية، يتضح لنا المسار الفلسفي لدى المعري: الشاعر، والكاتب، والفيلسوف، واللغوي، الذي مزج بين الحكمة الشعرية وبين الفلسفة والرؤية المرتبطة بالكون والحياة. إنّ المعري في فلسفته الشعرية يعمل على تحكيم العقل، الذي هو أساس رؤيته للنفس البشرية المنفتحة على هذا الكون، ثم إنّ حضور العقل في غير موضع من شعره يفسّر عمق هذه الفلسفة الرافضة للاتجاهات التقليدية في الحياة، والثقافة، والأدب، فلا "إمام سوى العقل" عند المعرّي، ومع العقل عَرَفَ المعري أنّ الإنسان في ضلالٍ في هذه الدنيا، والعقل أيضا مكمن المشورة التي ينبغي على الإنسان أن يلجأ إليها، فظل يدعو إلى ذلك قائلا:

فشَاورِ العقلَ واتركْ غيرَهُ هَدَراً ... فالعقلُ خيرُ مُشيرٍ ضّمَّهُ النادي

لقد شهدت الحقبة الزمنية التي كان يعيشها المعري جدالا واسعا على النطاق الديني والفلسفي والكلامي، واتُّهِمَ المعرّي معها بتهمٍ كانت كفيلة بالثورة على نصوصه، وكتبه، وعلى شخصه أيضا، وهنا تتضح أولوية الاهتمام بالعقل عنده والعودة إلى فلسفته الشعرية، والدعوة إلى تمكينه في الفكر والحياة، وعدم تقبّل ما جاءت به الرواية النظرية، فللعقل سلطانه عند المعري لم يبلغه أي سلطان.  

ولعلّ الناظر في الفلسفة العقلية يجد أنها امتدّت سنوات طويلة في الثقافة والفكر، أقلها منذ زمن المعرّي إلى وقتنا الحاضر، وحظيت باهتمام كبير خاصة للمهتمين بالتراثين الأدبي والفكري، ولعل اهتمام محمود محمد شاكر (1909-1997) على سبيل المثال في كتابه (أباطيل وأسمار)، الذي دافع فيه عن الثقافة العربية والتراث الفكري يجسّد الاهتمام الكبير بفلسفة العقل عند المعري في الشعر، إذ افتتح كتابه بدءاً من صفحة الغلاف والصفحة التي تليها والصفحة التي تلي المقدمة ببيتي المعري الشهيرين:

هل صّحَّ قولٌ من الحاكي فتقبلَهُ ... أم كُلُّ ذاكَ أباطيلٌ وأسمارُ

أما العقولُ فآلتْ أنّه كذبٌ ... والعقلُ غرسٌ له بالصدقِ إثمارُ

وكأنه يجعل اهتمامه بالعقل عنصراً رئيسا في الرد على أقلامٍ حَمَّلت الثقافة العربية ما لا يُحتمل، وأنْ لا سبيل للوصول إلى متاهات الكلام والحقيقة إلا بالعقل، أو كأنه يبني جسراً ممتداً إلى فكر أبي العلاء، مستمداً عنوان كتابه من بيته الشعري السابق.

إنّ فلسفة المعرّي في الشعر قائمة على إثارة السؤال لدى المتلقى، والتشكيك في ما لا يقبله العقل، فالسؤال أول الطريق إلى المعرفة، وهو ما عدّه أدونيس في قراءته لفكر المعري بأنّه تساؤل يحيلُ على "تمرّد ورفض وشك وقلق" (مقدمة للشعر العربي: ص31)، لذا فإن الاحتكام إلى العقل لدى المعري يقدّم صورة واضحة عن المنهج التفكيري والصراع الواقعي في مواجهة الحياة، ومعها فإن المعري واجه السلطة الدينية في شعره، وردّ كثيراً من آرائها وأفكارها، كما واجه السلطة المجتمعية وأظهر تناقضاتها وسطوتها على الفكر والحياة العامة. لقد ارتبط الاهتمام بالعقل عند المعري بالصراع والحكمة والفلسفة والسؤال والموت وهي استنتاجات ناقشها منطق التفكير عند شاعر ربط بين الفكر والعُزلة في تكوين رؤيته الفلسفية والشعرية.

يحيلنا الحديث السابق عن الشعر ودلالاته عند المعري على حضور تلك الدلالات والتساؤلات وارتباطها بالموت والحب عند سماء عيسى في تناوله للقصيدة في تركيبها التخيّلي، وعمليات إنتاج الدلالة والصورة. إن تجربة سماء عيسى الشعرية لا يمكن قراءتها في مقال سريع كهذا، إذ إننا أمام نصوص شعرية تستمد ثقافتها ومرجعيتها وتركيبتها الدلالية من ثقافة الشاعر، وحضور اللغة، وانزياح الصورة، وحركة الإيقاع. إنّ القصيدة عند سماء عيسى ارتباط واسع بالمخيلة الشعرية، والطاقة الشعورية، فهو ييبتكر من اللغة غموض الموت، ودفقة الشعور والرومانسية، وعلاقات التأمل في الحياة والواقع، ثم يفتح باب السؤال والتأمل على مصراعيه، لتنكشف الصورة على تركيب دقيق لحظة استدعائها في النص، فهل يمكننا القول إنها صورٌ ودلالات تعبيرية حديثة لتقاطعات الفكر مع رؤية أبي العلاء المعري للواقع؟

إنّ الكتابة الشعرية عند سماء عيسى تأتي محمّلة بالطاقة الشعورية النابعة من الذات، والمرتبطة بالرؤية الغامضة وبأسرار الجسد والروح، وإلى هذا يُشير:

عادةً لا يكون المرء قادراً: الكتابة إلى من يُحبّ

لأنه يكون قد كتب ذلك الحُبّ بدم قلبه

وأودع به أسرار روحه وجسده الفاني.      

إنّ الجسد والروح في علاقتهما الضدية مشروعان منفتحان على أسئلة الوجود والكون، وهي علاقة سابقة عبّر عنها المعري أيضا حين قال:

جسدي خرقةٌ تُخاطُ إلى الأرضِ ... فيا خائطَ العوالمِ خطني

ألا تُحيل هذه اللغة، والرؤية الداخلية ولو شيئا قليلاً على تقاطعات المعرّي مع الحياة والموت وسؤال المصير وفلسفته؟

تتقاطع دلالات الموت في نصوص سماء عيسى، والذي يستنزف معها كثيرا من طاقته الشعرية المتخيّلة لتكوين صورته الشعرية داخل النص، فيقدّم لنا صورة للموت الذي يفاجئ من نحب:

هذا الموتُ الغامضُ

كأسرار الأرض

هذا الموتُ الغزيرُ كدموعنا.

وتشرعُ مخيلته الشعرية في الاتساع، فتتعالق دلالات الموت مع اللغة الرومانسية، ويتصاعد الخيال في الصناعة الشعرية، فيربط سماء عيسى بين الحب والموت والغياب والبُعد والفراق، وتأتي دلالات الربط مُشْبَعَةً بالحنين تارةً، وبالتأمل تارة أخرى:

هل استيقظ الحُبُّ

ذات ربيع

فأبصرتِ في الليلِ

نجم غيابٍ بعيد؟

ويقول:

شجرة الحُبِّ الصغيرة البيضاء

حنتْ أغصانها

كنهرِ جفافٍ عجوز

رحل عشاقها إلى الموت

وعادت يبابا.

إن الدلالات التي تمنحها اللغة، والمخيلة الشعرية تربط بين الموت في هيبته، والحب في طوفانه، إذْ لا ينفكّ أحدهما عن الآخر، ولا يطمس أحدهما ذاكرة الآخر، حتى الطبيعة في ذاكرة الشاعر تأتي محمّلة بدلالات ممتزجة بين الاثنين، وهو ملمح رومانسي لا شك:

العصافير في غنائها

لم تعد سوى رحيل غامض

الشجر رمى ثمره في الأرض

المياه أكثر حنيناً إلى الموت

في انحدارها إلى المجهول.

إن الدلالات السابقة تبعث على تساؤلات عدة يحيل عليها النص الشعري، إنها التساؤلات ذاتها التي انطلقت من فلسفة المعري، فالمخيلة الشعرية، واللغة المستخدمة تدفع المتلقي إلى ضرورة إعمال الفكر، والدهشة عند تلقي السؤال، وإننا نستحضر مثل هذه التساؤلات المتخيَّلة حين نقرأ الموت والرحيل في هذه الصورة:

من يفتح البابَ

لأمي

عندما تعود؟

الملائكةُ

يا حبيبتي

لكنها رحلتْ

غابتْ ولن تعود ثانية.

 

هو هكذا الشعر في لحظاتِ تكوّنه، فلسفةٌ نابعةٌ من الرؤية العميقة للذات، وصورةٌ يبتكرها الخيال، إنها أشبه بلعبة نُدمنُ لعبها، رغم تزاحم أوقاتنا وانشغالاتنا المتكررة. الشعر فلسفة وتعبير وتصوّر وحياة ورحلة وسؤال عند المعري وسماء عيسى، وهو روحٌ وخلودٌ وذاكرة لا ننفصل عنها، وكما عبّر الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث: "إنّ شعباً بلا شعر، هو شعبٌ بلا روح"، فإننا والشعر هكذا في علاقتنا المستمرة.   


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق