الخميس، 17 سبتمبر 2009

درويش .. حضور في الحضور




درويش .. حضور في الحضور

" درويش يرحل كما تنبأ دون ضجيج ! " ، هكذا وصلني خبر الرحيل ، هلال البادي بعث التعازي حارة في الأرجاء ، فأعادتني الذاكرة قليلا لأسبوع سابق ، إلى ذلك المساء المحمّل برائحة اللبان الجنوبي ، والأفق الممتد في حضورٍ خريفي رائع . هناك على طاولةٍ واحدة في مطعم الفندق الذي جمعنا في الملتقى الأدبي الرابع عشر بصلالة ، كنا أنا والشاعر حسن المطروشي نتحدث قليلاً عن الشعر فأخذنا الحديثُ إلى محمود درويش ، تطرقنا إلى ديوانه الأخير " أثر الفراشة " ، أذكر يومها أنّي تلوتُ شيئا من همزيته في الديوان ، والتي ربما كان يتحدى من خلالها قلبه الصغير ، لم نكن ندري ونحن في خضم الحديث عنه أنَّ الموتَ الذي غلبتْه الفنون جميعاً كان يتحيَّنُ فرصة ليعلن من خلالها انتصاراً تاريخياً على أفق الحياة !!

كان الحديثُ ساعتها عظيماً رغم قصره ، لمَ لا ؟! والمُتَحَدَّثُ عنه درويش الذي حمل الكلمة على جناحٍ وحلّق بها بعيداً ، درويش الذي أهدى السماء لوناً درويشياً برائحةِ الأمل ، إنّه درويش فكان لزاماً أن يتحدثَ عنه القلب وأن تخفق له الروح .

قبلها فقط بيومين كنت والقاص محمد سيف الرحبي نستمع إلى تسجيل صوتي لدرويش من أمسية أقامها في أبوظبي ، كان الشعر حاضرا صوتا يدغدغ الآذان ، ويرحل بالقلوب بعيدا ، درويش حضر في هذا الأسبوع أكثر من مرة ، ثم رحل في الأسبوع الذي يليه في وداع أبدي !!

وأنا أستقبل رسالة هلال البادي على هاتفي ، أدركتُ أنها ساعةٌ فقد فيها الشعرُ الحديثُ عموداً من أعمدته ، الطائرُ المحلقُ فضاءَه الممتدَ ، إنّه محمود درويش أجمل من حمل مشعل الشعر في زماننا ، توالت بعدها الرسائل نقلا عن القنوات الإخبارية التلفزيونية ما بين مؤكدٍ للخبر ونافٍ له ، إلى أنْ جاءتْ جهينةُ أخيراً بخبرها الأكيد برحيل الشاعر محمود درويش في الولايات المتحدة على إثر عمليةٍ أجراها في القلب ، ذلك القلب الذي ظل درويشُ طويلاً حاملاً سرَّه معه ، يُخْبرُ عنه في شعره ، بعدها يأتيني اتصالٌ هاتفي من الشاعر حسن المطروشي يذكرني بالحوار الدرويشي الذي دار بيننا هناك في صلالة ، وكأنّ القدر أراد لنا أن نذكره لحظة احتضاره تلك ، إذن رحلَ درويش وهو الذي قال :

" أحِنُّ إلى خبزِ أمّي
وقهوةِ أمّي ،
ولمسةِ أمّي ،
وتكبرُ فيَّ الطفولةُ
يوماً على صدرِ يومِ
وأعْشقُ عمري لأنّي
إذا مِتُّ
أخجلُ منْ دمعِ أمي .. "

هذه المرة يا درويش ترحلُ دون أن تخجلَ من دمع أمّك ، رحيلُكَ جاءَ بمذاق الصبر الذي رسمته شعراً طيلة السنوات الماضية ، والأمل الذي كنت تحمله لشعبٍ أفاق على نكبةٍ إثر نكبة ، ونحنُ مثلكَ كنا نحنُّ لذلك الخبز ، القهوة ، اللمسة ، للحياة التي عشناها في طفولتنا ، كلما مررنا على هذه الكلمات استرجعنا داخلنا ذلك الزمن ، وحدكَ من أحبَّ تلك الحياةَ ، وأظنّكَ أخيراً أحببتَ أن تفارقها وأنت تردد :

" على قلبي مشيت كأن قلبي ..
طريق أو رصيف أو هواء "

هكذا هو الشعر عندما يبقى شاهدا ومتحدثا ، رحل درويش وبقيت الكلمة في جدار القصيدة العربية ، محمود ترك حروفه معلقة للزمن ، وعلى امتداد الفضاء الشعري الطويل يبقى حصان الشعر يحمل ذلك المشعل ، تبقى القصيدة الشعرية محملة بأسرار لا تعرفها إلا أقلام نسجت حروفها من ذهب ، ودرويش آخر هذه الأقلام ، شاعر ولدته الحياة ، فأوجد لنا الإصرار ، منحه الزمنُ الغيابَ ، فأوجد لنا الحضور ، منحته القصيدة الحبَّ فأوجد لنا الجمال ، وجمال درويش في الغياب وفي الحضور .

فمساء درويشي أخير لنزف القصيدة العربية .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق