الخميس، 17 سبتمبر 2009

قراءة في تلاوة من حضرة الفقد



قراءة في قصيدة " تلاوة من حضرة الفقد لابن الفارض "
لمحمد عبدالكريم الشحي


تأخذُ القصيدةُ العمانيةُ المعاصرةُ شكلاً حديثاً مغايراً عما كانت عليه في السابق ، ويتضح ذلك في جميعِ أجزاءِ النصِ الشعريِّ من حيث ابتعاده عن التقليدية المباشرة ، وبروز التطور الكبير للغة المتفجرة في عوالم النص ، فتأتي النصوص معبرة عن ذلك ، والمتأمل في النصوص الشعرية العمانية المعاصرة يجد بها اتجاها كبيرا للتراث واستلهامه بمدلولاته ، وإعادة بنائه من جديد داخل نص شعري متكامل ، ليس ذلك فقط بل وتوجها كبيرا للغة المتشكلة داخله ، فتأتي النصوص طافحةً بلغة صوفية بحتة ، وهذا ما يظهر لكثير من الشعراء المعاصرين الذين رأوا في هذه اللغة فضاء يقوم عليه النص الشعري ، ورأوا في هذا المنهج سبيلا لبناء شعري جديد نابع من التراث العربي ، فجاءت الكتابة الشعرية امتدادا شعريا لما خلفه شعراء سابقون كأبي مسلم البهلاني وسعيد بن خلفان الخليلي وغيرهم من الشعراء العمانيين الذي طرقوا أبواب هذا المنهج ، وتركوا الباب مفتوحا لمن سيأتي من بعدهم من الشعراء .

وإن كنا نعترف بانفجار هذه اللغة في جنبات النص الشعري المعاصر ، وحضور الجانب الصوفي داخل أروقته ، واستلهام الشعراء لمفردات ودلالات التصوف في كتاباتهم ، فإن الشاعر محمد عبدالكريم الشحي من الشعراء الذين تشربت نصوصهم الشعرية بذلك المنهج ، توجها ورمزا ودلالة ، والذي يرى في " التلاقي بين الفلسفة والشعر والتصوف هو القصيدة " ذاتها ، فأكثر من استلهام الشخصيات / المفردات الصوفية وإعادة تشكيلها في أديم ورقه ، يقودنا الشاعر من خلال لغته العجيبة التي ينحتها من قاموسه الدلالي البديع إلى نصوص ممتلئة بالدهشة ، وخير ما يمثل ذلك قصيدة " تلاوة من حضرة الفقد لابن الفارض " ، إذ يعمد إلى نحت عنوان نصه بطريقة مدهشة ، فيجمع بين الحضرة والفقد في طواف واحد ويبني عليه مفرداته القادمة في النص .

كما يعمد محمد الشحي إلى استدعاء ابن الفارض وإنزاله منزلة روحية غيبية في قصيدته ، والتي يعيدنا من خلالها لذلك العالم الذي ينكشف فيه كل شيء ، وكأن ابن الفارض يعود مسكونا بما تركه خلفه ، يستحضره في هذا الزمان ، ويعيد تلاوته وابتناءه مرة أخرى في واقع انطمستْ فيه كل معالم الرؤية والرؤيا .


:: داخل النص ::

يأتي النص على هيئة حُلْمٍ تعيشه الروح ، تنبني خلاله كل التصورات المتمثلة في الحياة الروحية ، هذا الحلم هو الذي يعمل على تشكيل النص الشعري ، فيقوم بابتناء عالمه الخاص ، وروحه المتشكلة ، فيلجأ الشاعر إلى تكوين بنيته الشعرية معتمدا على الأفعال المضارعة التي تعطيه زمنا مستمرا ، وفضاء ممتدا ، زمنَ الاغتراب الذي يكونه ، أو الحلم الذي تشكَّلَ داخله ، فجاءت دلالاته متكررة في المقطع الأول وكأنه يحدّث عن رحلته هذه بأنها جزءٌ من حلم يعود بعدها لواقعه ، يقول في قصيدته :

" سَيغفو على شَهْقَةِ الحُلمِ هذا التّجلِّي ويمسحُآثامَهُ الصّافناتِ بأسئلةٍ في رخامِ الأثيرِليحبو النّوالُ إليَّ قليلافلِلحُلْمِ حين اسْترابَ النّحيبُأزاميلُهُ ،مزاميرُه ،وجَلوَتُهُ البِكرُ كَشْفٌ عَلِيّيَزِفُّ المَقامةَ صَوبَ الوليّو لِلحُلمِ أدعيةٌ في القِنانِكما دِمَنٍ في ذراعِ الأقاصيتبتَّلَ فيها دمِي واســتفاقَعلى سِدرةٍأرَّخَـــتْ لي خَلاصيولكنّهاغُربةُ اللاّحُبورِ "

يمضي النص بعد ذلك ممتلئا بكل الدلالات التي تمنحه حرية البدء ، وكأن الشعر يحملنا في رحلة منامية – وكذا رحلات المتصوفة رحلة منامية غيبية يعتقدون خلالها أنهم وصلوا للعشق الأبدي واللذة الخالدة – يحملنا في رحلة منامية طويلة ، ثم يجعلنا نستفيق منها على لحظة تتفتَّحُ فيها أسرارٌ كونية عميقة لا يعلم كنهها إلا الحالمون بها ، فيأتي النص على لحظة اتساع دوائر كونية ، يأخذك باشتغالاته المدهشة إلى عوالم أخرى ، العوالم التي يحياها الباحث عن لذةٍ مفقودة ، وكأن النص يخرج أو يتناسى قليلا دائرة الحلم التي بدأها الشاعر ، لينتقل إلى تصوير مشهدي عجيب لحظة الغمرة المرتقبة ، يتنقل الشاعر بين عوالمه باحثا عن لحظته التي يطرقها ، وكأنّ المسافة كلها تتكون في حُلْم ، ثم غيبوبة ، ثم اغتراب ، ثم عودة أخرى لذات الحُلْم ، وكأن المشهد يتضح في كونه بداية ، ثم متاهة ، ثم ضياع داخلي ، وعودة مرة أخرى للبداية ، وبعبارةٍ أخرى لكأنَّ النهاية والبداية ، واليقظة والحلم ، شيء واحدٌ عند الشاعر ، فكلها أسرار تفضي به إلى لذةٍ واحدة ، لذا وبعد رحلة المتاهة التي يعقدها الشاعر في دائرة المنام تلك ، يعود مجددا للبداية / للحلم ، حيث اشتراك البداية والنهاية في زمن لا وجودي ، يقول :
" أعودُ لحُلمي وقد خِلْتُ أنّيالصّفيُّالنّقيُّ البهيُّالعَليُّالجليُّالوليُّ وأنّيالسّلامُالغمامُذَراري الكلام
وأصحو بلا نُسُكٍ في المدارِ وأصحو بلا زُرْقَةٍ للثّوابِوأصحو ومِسبحةٌ من دموعٍتُرتِّلُ في راحَتَيَّ طويلا "
يتضح الخطاب السلوكي / الصوفي في هذا النص من خلال ألفاظه ودلالاته التي ينثرها الشاعر داخل نصه ، وما استدعاء ابن الفارض الذي يدور هذا التجلي حوله ، إلا تقنية يلجأ إليها الشحي في استكمال بنائية نصه ، فكأن ابن الفارض يمثل هنا الشاعر والمتلقي والإنسان الذي يمزق نفسه من أجل عبوديته المنشودة .

يأتي النص ممتلئا بالأسرار الداخلية التي لم يكشف عنها حضوره الشعري شأنها في ذلك شأن اللغة الصوفية التي جاءت متسترة على المكنونات الداخلية لدى المتصوف / الشاعر ، والتي عبر عنها بإتقان ، فنجد الشحي يلجأ داخليا لنفس اللغة والمفردات التي طرقها السابقون ، ليكوّن نصا متسترا على جوهره ، يتحدث بلغة أولى تثير الدهشة حينا والإعجاب حينا آخر ، فيستمد ألفاظه من القاموس المعجمي الصوفي ماداً جسر التواصل بين الزمن البعيد والزمن الحاضر ، ليستنطق المفردات مرة أخرى ، ويشكلها في قالب فني جديد ، نجد مثلا :

( وجَلوَتُهُ البِكرُ كَشْفٌ عَلِيّ ، يَزِفُّ المَقامةَ صَوبَ الوليّ / سأعثُرُ خَلْفَ العَلِيّينَ دوماً ، لكي يمنحوني قميصَ البصيرة / رَمى القلبُ يوماً على لَهَواتِ المراحلِ صَوتي ، وطهَّمَها بالتّوحُّــدِ عَـذباً / سأترُكُها أيّها العارفونْ ، تُساومُ ظِلّي ، لِيغدُو الفناءُ مَسيحاً قتيلا)

هذه الألفاظ والمفردات التي شكلت النص عملت على إثارة دلالات أخرى منفتحة على أجزاء بعيدة غيّبها الواقع الشعري المعاصر ، كما عملت على إيجاد بنية هندسية فوضوية رائعة داخل النص يتقنها الشحي في أغلب نصوصه الشعرية وتتمثل في المراوحة بين الفضاء الشعري التفعيلي ، والبناء العمودي ، ليخلق من خلاله فضاء مشتركا بين الاثنين ، ويعمل على توليد نص متحرر في عملية الكتابة :

يفِلُّ ضفائرَهُ العشقُفي شفَتَيَّ ابتهالاً صَموتامتى حَفَّنيأتاهُ النداءُ العَلِيّ:" هل انسكبتْ من جناحِ الفُيوضِ ومِشكاتِها اللحظةُ الفارقةوهل شفَّكَ الغَمْرُ حتى غَدَوتَ غريقاً يُصلي لِمنْ أغرقَههُنالكَ رُوحـكَ إشــراقةٌ وسِربٌ بنكهتهِ المـُعتَقَه "
أجزاء هذا النص الشعري جاءت ملونةً بكل إغراقات الغياب ، ارتسمت على صورة تحاول أن تتفتح على اللحظة التي يعيشها الواقع ، ولكن الواقع نفسه لم يجد في تلك اللحظة إلا خضوعا لما تريده ، ولعل الشحي قرأ كل ذلك ، وأبصر ما لم يبصره الآخرون ، فصوّر لنا الحياة / الغياب / المشهد تصويرا جلياً يعبر عن " حَلْبة رقصٍ يطوفُ بها وَلَهُ النّاسكين " أو عن لحظة ينشدها زاهدٌ وصولا لحياة خالدة !!




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق