السبت، 16 مايو 2020

رواية: موسم الهجرة إلى الشمال





عندما تقرأ للطيب صالح (1929-2009) فإنك تستطيع أن تتخيّل المكان بصورته الصافية، والبيئة بثقافتها؛ إنّ الطيب صالح واحد من الروائيين الذي استطاعوا تقديم صورة للسودان بثقافته، وبيئته، وحياة أفراده، ولا أدلَّ على ذلك من روايات (موسم الهجرة إلى الشمال) و(عرس الزين) و(مريود)...

تنقُلُك رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) إلى تلك الرقعة الجغرافية من العالم، في أفريقيا مطلع القرن الماضي، وتتناول حكاية مصطفى سعيد الإنسان الغريب الذي نقله نبوغه من السودان إلى إنجلترا للدراسة، وهناك صار مصطفى سعيد صياداً للفتيات، كل مرة يطارد ضحية جديدة، ثم يستبدلها بضحية أخرى إلى أن تقوده الأحداث لإدانته بقتل زوجته ثم محاكمته وسجنه. الرواية تُعيد مصطفى سعيد إلى السودان ولكن ليس إلى الخرطوم بل يسافر إلى بلد ريفي وهناك تتمدّد الحكاية وتتوسع الأحداث، وتنكشف معها الشخصية المجهولة لمصطفى سعيد.

لا أخفيكم سرداً وأنا أقرأ الصفحات الأولى من الرواية أحسستُ بأنَّ الأحداث تتداخل في ذهني، واللغة التي بدأتْ بها الرواية أقرب إلى السيرة الذاتية، لقد أحسست وأنا أتعمق في القراءة وكأني أقرأ سيرة الطيب الصالح، والأحداث عاشها في ذاكرته ونقلها في سطوره، والأمكنة رأتْه وأثّرت فيه وتصالحت معه، واختلفت معه، أقول ذلك وأنا أتساءل هل يمكن أن يحدث ذلك في مخيلة القارئ بإطلاق الآراء على ما يقرأ؟ هل يمكن أن يكون مصطفى سعيد صورة ولو في شيء بسيط من تخيّلاتها للروائي نفسه؟

حين تقرأ موسم الهجرة إلى الشمال ستجد المجتمع السوداني حاضراً كعادة كتابات الطيب صالح باشتغاله على بيئة مجتمعه وثقافته، فهو ينبش في هذه الرواية في بعض العادات المجتمعية كتزويج الغريب، وتزويج الفتاة دون موافقتها، والعمل على حساب التعليم، وحكايات المتزوجين، وجلسات السمر، وطقوس الختان وحفلاته، وعادات النيل وفيضانه. ومع ذلك فهو لم يغفل عن إقامة علاقة ولو بسيطة بين بلده وبلد آخر يرى فيها حرية أخرى.

لقد سافر مصطفى سعيد وهو غريب في داخله، وعاد وهو غريب في داخله، ومات وهو غريب أمام الناس والمجتمع وزوجته، لقد أراد أن يخفي أسراره عن الجميع فكان له ما أراد.

في قراءتك لهذه الرواية يمكنك أن تكتشف طبائع الشخصيات التي اشتغلت عليها الروائية، الشخصية المثقفة المتعلمة، والشخصية العاملة الكادحة، والشخصية المتدينة، والشخصية البسيطة العامية، والشخصية الراغبة في الجنس، والشخصية القانعة الخاضعة، كل تلك الشخصيات استطاع الطيب الصالح توظيفها في أحداثٍ عادت بالذاكرة بها لمجتمع كان يرمم حياته ويفكر في مستقبله. لقد استمدّت الرواية كل تفاصيلها من ثقافة المجتمع السوداني مما جعل للحكاية في تفاصيلها أكثر ارتباطاً بالمكان والذاكرة والحلم والطفولة، في استعادة لموسم السفر أو الهجرة إلى البلاد الأوربية، والتي لم يبقَ منها إلا ذاكرة من الصور خبّأها مصطفى سعيد داخل غرفة مغلقة، وكأنّ تلك الصور هي نسخة أخرى لذاكرة الغريب الذي أتى ورحل دون أن يُحس به أحد. وهي الذاكرة نفسها التي سيتركها مصطفى سعيد متعلقة بذاكرة ابن القرية الذي لا يعرفه كثيراً، ويجعله وصياً على أولاده ويمنحه مفتاح الغرفة التي بها أسراره.

ستتكشف الأحداث شيئا فشيئا، وسترحل حسنة بنت محمود حاملة معها حزمة من العادات والتقاليد بقتلها ود الريس، حيث لم يقم الناس لها عزاء ولا جنازة، وسيموت ود الريس على يد حسنة بسبب رغبته الجامحة في الزواج والطلاق، وسيلتهم النيل مصطفى سعيد لأنه تعلّق بأرضه في يوم ماطر، وسيظل ابن القرية/ الراوي ينظر إلى جده، ومحجوب، وبنت مجذوب، وأهل قريته، يتفرس في وجوههم، وفي طباعهم قائلا: "هؤلاء القوم لا يدهشهم شيء. حسبوا لكل شيء حسابه. لا يفرحون لمولد ولا يحزنون لموت. حين يضحكون يقولون: "أستغفر الله" وحين يبكون يقولون: "أستغفر الله". لا يقولون: وأنا ماذا تعلمت؟ تعلموا الصمت والصبر من النهر والشجر".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق