الاثنين، 10 فبراير 2014

مختارات (2): جدي والعريش لسليمان المعمري




جدي والعريش

 

أوصاني جدي ألا أدخل العريش الذي كان ينام فيه إلا بعد أربعين يوما من وفاته .. ولكن بسبب خطأ في الحساب دخلتُ في اليوم التاسع والثلاثين فرأيتُ دشداشة بيضاء معلقة في مشجب كرجل مشنوق ، يتدلى من جيبها الأيمن فاتورة ، ومن الأيسر فاتورة أخرى .. تسمّرتُ مكاني من الهلع وخرج مني صوتٌ يشبه المواء : "أنا آسف ، أنا لم أقصد الدخول ميااو" .. وسمعتُ نباحا يخرج من الدشداشة المعلقة فارتعدتْ فرائصي وفررتُ مذعورا خارج العريش ، ووصلتُ إلى أمي وهتفتُ وأنا ألهث : "أعيديني إلى رحمك" .. ففعلتْ عن طيب خاطر ، ولكنني لم أرتح للنوم متكوماً بطريقة الجنين فرفستُها وخرجتُ .. ورأيتُ القرية كلها تجري ناحية عريش جدي فركضتُ وراءهم .. كانوا يقفون صفاً أمام العريش .. كلما دخل واحد خرج مفزوعا يطارده نباح الكلب .. وما هي إلا سويعات حتى سمعتُ القرية كلها تموء مثلي فحمدتُ الله وشكرتُه .. في اليوم التالي دعانا الشيخ سعدون بن خويطر لاجتماع .. تنحنح وماء ، ثم قال : "صرنا قريةَ سنانير ، فماذا ترون ؟" .. قال الذي أسرّتْ لي أمي أنه هو من أكل جدي : "لا بد من قربان نسترضي به الجن ، ليس أمراً هينا الدخول على جني وهو في وضع غير ملائم" .. ورأيتُهم ينظرون اليَّ فارتعدتُ وطفقتُ أجري وأموء ، وهم يجرون خلفي ويموؤون .. وتعثرتُ أثناء ركضي بنتوء صخري فسقطتُ برأسي على حافة الفلج .. والآن هذه المرأة ذات البدلة البيضاء تقول إنني يجب أن أشرب من يدها الكأس .. وأن أمي رحلتْ قبل لحظات ، وقد تعود اليوم ، أو تعود غدا .. وتقول أيضا إن جدي بالخارج ، وسأل عني غير مرة !! .. بعد أن حمل الممرض الطعام قال جدي معاتبا : "أما كان بإمكانك أن تصبر يوما واحدا ؟!" .. قلتُ : "أنتَ تعرف يا جدي أن المادة الوحيدة التي كنتُ أرسبُ فيها هي الرياضيات" .. قال : "عندما تخرج من هنا فان عليك أن تحرق ذلك العريش وإلا ظللتُ تائها في الأرض" ..

بعد خمسة أشهر خرجتُ من المستشفى فوجدتُ جنودا يحيطون بالعريش وينظمون حركة الجموع المحتشدة حوله .. سحناتٌ عجيبة أراها لأول مرة .. قلتُ لإحداها : القرية تغيرتْ كثيرا في غيابي ! .. قال : "أنا لستُ من هذه القرية" .. عرفتُ بعدها من أمي أن كل أهالي القرى المجاورة يأتون يوميا ليستمعوا لنباح الرجل المشنوق .. ومازالت محاولاتي لحرق العريش مستمرة حتى بعد مضي عشرين عاما .. الجنود كانوا منتبهين دائما ، يحبطون محاولتي في مهدها .. المرة الوحيدة التي تمكنتُ خلالها من إشعال النار تم إطفاؤها بسرعة وهي محض جذوة .. الناس نسيتْ جدي الآن ويظنونه ميتا .. أنا الوحيد الذي ما زلتُ أراه ، يتنزه يوميا في القرية وينظر إليَّ بعتب .

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق